دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٣

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٣

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٠

وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ ، قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ ، وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ ، فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) (١).

وتفسير الآيات الكريمة أن رجلين يمتلك أحدهما تسعا وتسعين نعجة ، ويمتلك الآخر نعجة واحدة ، وقد نازعه فيها صاحب التسع والتسعين ، وقد دخل الخصمان على داود من غير المدخل المعتاد ، فقد دخلا عليه من فوق الجدران ، وهي طريقة توحي في أعراف الناس بشر يقع من هذا التسوّر ، فما يتسوّر المحراب هكذا مؤمن ولا أمين ، كما أن دخولهما كان في غير وقت جلوسه للحكم ، وإنما في وقت خلوته إلى نفسه ، واعتزال مجتمعه وأمته في هذا اليوم ، إرضاء لرغبة نفسه في حبه لعبادة ربه ، فقد كان داود يخصص بعض وقته للتصرف في شئون الملك ، وللقضاء بين الناس ، ويخصص البعض الآخر للخلوة والعبادة وترتيل أناشيده تسبيحا لله في المحراب ، وكان إذا دخل المحراب للعبادة والخلوة لم يدخل إليه أحد حتى يخرج هو إلى الناس ، روى عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن الحسن البصري قال : إن داود جزأ الدهر أربعة أجزاء ، يوما لنسائه ، ويوما للعبادة ، ويوما للقضاء بين بني إسرائيل ، ويوما لبني إسرائيل ، وروى نحوه عن السّدي فيما أخرجه الحكم في المستدرك والطبري في التفسير (٢).

ومن ثم فقد فزع داود من الخصمين ظنا منه أنهما يريدان به شرا ، فلما

__________________

(١) سورة ص آية : ٢١ ـ ٢٥.

(٢) انظر تفسير الطبري : ٢٣ / ١٤٧ ـ ١٤٨ ، تفسير الدر المنثور : ٥ / ٣٠١ ، تفسير الظلال : ٥ / ٣٠١٨ ، المستدرك للحاكم : ٢ / ٥٨٦ ، تاريخ الطبري : ١ / ٤٨٢ ، عويد المطرفي المرجع السابق ص : ٥٢ ـ ٥٣.

٤١

ظهر أنهما جاءا من خصومة ليحكم بينهما فيها ، استغفر ربه من هذا الظن وخر ساجدا منيبا إلى الله تعالى ، فغفر الله له ذلك الظن ، لأنه ما كان ينبغي من مثله وكما هو معلوم حسنات الأبرار سيئات المقربين ، وربما كان استغفاره لأن انقطاعه للعبادة يوما كاملا عن أمته ، واختلاءه بنفسه ذلك اليوم كله ، يؤدي حتما تركه النظر في ذلك اليوم في أمر رعيته وأمته التي استودعه لله عزوجل رعاية مصالحها ، فجاءه مثال من حاجتها إليه في كل وقت ليقوم بإصلاح ذات بينها ، وإقرار التراحم والتآخي بين أفرادها حتى يكونوا على هدى من ربهم ، كما يدل على ذلك قول الخصمين له «واهدنا إلى سواء الصراط» ثم بيّن الله تعالى لداود عليه‌السلام مهمته في هذه الحياة الدنيا ، باعتباره ملكا على بني إسرائيل ، ونبيّا مرسلا ، إذ الملك يقتضي خلافته لله تعالى في الأرض بالنظر في مصالح رعيته والحكم بينهم بالعدل ، وفصل قضاياهم بما يرفع الظلم والبغي عن ضعفائهم ، إذا حاوله كبراؤهم وأقوياؤهم (١) ، وذلك لا يتم على الوجه المطلوب إلا إذا وضع نفسه قريبا منهم في كل آن ، قال تعالى : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ، إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) (٢) ، فأخبره أنه جعله خليفة في الأرض وأمره بالحكم بين الناس والفصل في قضاياهم بالحق ، والنبوة تعود الملك وتحرسه عن أن تندبه مطالب الدنيا عن سبيل الحق والعدل ، وتسلك به مسالك الطهر والتزام الهدى (٣).

على أن رواية أخرى تذهب إلى أن الخطأ الذي وقع من داود أنه سمع

__________________

(١) جاء في بعض الآثار «السلطان ظل الله في أرضه» ، وقال الخليفة عثمان بن عفان : «إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن» البداية والنهاية : ٢ / ١٠.

(٢) سورة ص آية : ٢٦.

(٣) عويد المطرفي المرجع السابق ص : ٥٣ ـ ٥٤.

٤٢

أحد الخصمين وهو صاحب النعجة الواحدة ، ولم يسمع حجة الخصم الآخر وهو صاحب التسع والتسعين نعجة ، وتسرع من أجل ذلك في الحكم دون أن يمعن النظر ويرى حجة الخصم الآخر ، ومن أجل ذلك استغفر ربه من هذا الخطأ الذي وقع فيه نتيجة السهو ، وهو خطأ لا يتنافى مع العصمة (١) ، ولعل عذر داود عليه‌السلام ، أن القضية كما عرضها أحد الخصمين تحمل ظلما صارخا مثيرا لا يحتمل التأويل ، ومن ثم اندفع داود يقضي على أثر سماعه لهذه المظلمة الصارخة ، ولم يوجه إلى الخصم الآخر حديثا ، ولم يطلب إليه بيانا ، ولم يسمع له حجة ، ولكنه مضى يحكم «قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم» ، ويبدو أنه عند هذه المرحلة اختفى عنه الرجلان فقد كانا ملكين جاء للامتحان امتحان النبي الملك الذي ولاه الله أمر الناس ليقضي بينهم بالحق والعدل ، وليتبين الحق قبل إصدار الحكم ، وقد اختارا أن يعرضا عليه القضية في صورة صارخة مثيرة ، ولكن القاضي عليه ألا يستثار ، وعليه ألا يتعجل ، وعليه ألا يأخذ بظاهر قول واحد قبل أن يمنح الآخر فرصة للإدلاء بقوله وحجته ، فقد يتغير وجه المسألة كله أو بعضه ، وينكشف أن ذلك الظاهر كان خادعا أو كاذبا أو ناقضا ، وعند هذا تنبه داود إلى أنه الابتلاء ، «وظن داود إنما فتناه» ، وهنا أدركته طبيعته إنه أواب «فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب» (٢).

على أن بعض كتب التفسير قد خاضت مع الإسرائيليات حول هذه الفتنة خوضا كبيرا تتنزه عنه طبيعة النبوة ، ولا يتفق إطلاقا مع حقيقتها ، حتى الروايات التي حاولت تخفيف تلك الأساطير سارت معها شوطا ، وهي لا

__________________

(١) محمد الطيب النجار المرجع السابق ص : ٣٩.

(٢) في ظلال القرآن : ٥ / ٣٠١٨.

٤٣

تصلح للنظر من الأساس ، ولا تتفق مع قول الله تعالى : (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) ، كما أن التعقيب القرآني الذي جاء بعد القصة يكشف كذلك عن طبيعة الفتنة ، ويحدد التوجيه المقصود بها من الله لعبده الذي ولاه القضاء والحكم بين الناس (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) ، فهي الخلافة في الأرض ، والحكم بين الناس وعدم اتباع الهوى ، واتباع الهوى ، فيما يختص بنبي ، هو السير مع الانفعال الأول ، وعدم التريث والتثبت والتبيّن مما ينتهي إلى الاستطراد فيه إلى الضلال ، أما عقب الآية المصور لعاقبة الضلال فهو حكم عام مطلق على نتائج الضلال عن سبيل الله ، وهو نسيان الله والتعرض للعذاب الشديد يوم الحساب (١).

على أن بعض المفسرين والمؤرخين قد أسرفوا على أنفسهم ، فذهبوا إلى أن هذين الخصمين اللذين تسوّرا المحراب على داود عليه‌السلام ، إنما هما ملكان أرسلهما الله تعالى إليه لينتبه إلى خطئه من محاولة ضم امرأة «أوريا» إليه ، وعنده تسع وتسعون امرأة ، ومن ثم فهم يرون أن أهل زمان داود عليه‌السلام كان يسأل بعضهم بعضا أن ينزل له عن امرأته فتزوجها إذا أعجبته ، وكان لهم عادة في المواساة بذلك ، وكان الأنصار يواسون المهاجرين بمثل ذلك ، فاتفق أن داود عليه‌السلام وقعت عينه على امرأة أوريا فأحبها فسأله النزول له عنها ، فاستحى أن يرده ففعل فتزوجها ، وهي أم سليمان ، فقيل له إنك ، مع عظم منزلتك وكثرة نسائك ، لم يكن ينبغي لك أن تسأل رجلا ليس له إلا امرأة واحدة النزول عنها لك ، بل كان الواجب عليك مغالبة هواك وقهر نفسك والصبر على ما امتحنت به ، على أن رواية

__________________

(١) في ظلال القرآن ٥ / ٣٠١٨.

٤٤

أخرى تذهب إلى أوريا خطب تلك المرأة ، ثم خطبها داود ، فآثره أهلها ، فكانت زلته أن خطب على خطبة أخيه المؤمن ، مع كثرة نسائه (١) ، على أن هناك رواية ثالثة تذهب إلى أن خطئه داود كانت أنه لما بلغه حسن امرأة أوريا ، فتمنى أن تكون له حلالا ، فاتفق أن أوريا سار إلى الجهاد فقتل ، فلم يجد له من الهم ما وجده لغيره (٢).

على أن هناك رواية رابعة اندفعت في هذه الحماقة ، جريا وراء إسرائيليات باطلة ، وقد نسي أصحابها ما في هذا الصنيع من إلصاق تهمة شنيعة برسول كريم ، ونبي جليل ، تقول هذه الرواية أنه بينما كان داود عليه‌السلام في خلوة عباده ، جاءه الشيطان وقد تمثل في صورة حمامة من ذهب حتى وقع عند رجليه وهو يصلي ، فمدّ يده ليأخذه فتنحى فتبعه ، فتباعد حتى وقع في كوة ، فذهب ليأخذه فطار من الكوة ، فنظر أين يقع فيبعث في أثره ، فأبصر امرأة تغتسل على سطح لها ، فرأى امرأة من أجمل النساء خلقا ، فحانت منها التفاتة فأبصرته ، فألقت شعرها فاستترت به ، فزاده ذلك فيها رغبة (وفي رواية أخرى ، فما زال يتبع الحمامة حتى أشرف على امرأة تغتسل ، فأعجبه خلقها وحسنها ، فلما رأت ظله في الأرض جللت نفسها بشعرها فزاده ذلك أيضا إعجابا بها ، فسأل عنها فأخبر أن لها زوجا غائبا بمسلحة كذا وكذا ، فبعث إلى صاحب المسلحة أن يبعث أوريا (أهريا) إلى عدو كذا وكذا ، فبعثه ففتح له ، ثم بعثه إلى أخرى حتى قتل في الثالثة ، وتزوج داود امرأته (٣) ، فلما دخلت عليه لم تلبث عنده إلا يسيرا حتى بعث الله ملكين في

__________________

(١) تفسير النسفي ٤ / ٣٧ ـ ٣٨ ، تفسير البيضاوي ٥ / ١٧ ـ ١٩.

(٢) الكامل لابن الأثير ١ / ١٢٦.

(٣) قال مقاتل بلغنا أنها أم سليمان (تاريخ الطبري ١ / ٤٨٢) وقال ابن كثير : وكانت لداود مائة امرأة ، منهن امرأة أوريا أم سليمان بن داود التي تزوجها بعد الفتنة (البداية والنهاية ٢ / ١٥).

٤٥

صورة إنسيّين ، فوجداه في يوم عبادته ، فمنعهما الحرس أن يدخلا عليه ، فتسوّرا عليه المحراب ، ففزع منهما فقالا : لا تخف خصمان بغي بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط ، قال قصا على قصتكما ، فقال أحدهما : إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة ، فهو يريد أن يأخذها ليكمل بها نعاجه مائة ، فقال للآخر ما تقول ، فقال إن لي تسعا وتسعين نعجة ، ولأخي هذا نعجة واحدة ، فأنا أريد أن آخذها منه فأكمل بها نعاجي مائة ، قال : وهو كاره ، قال وهو كاره ، قال : إذا لا ندعك وذاك ، قال : ما أنت على ذلك بقادر ، قال : إن ذهبت تروم ذلك ضربنا مئات هذا وهذا (الأنف والجبهة) فقال يا داود ، أنت حق أن يضرب منك هذا وهذا حيث لك تسع وتسعون امرأة ، ولم يكن لأوريا إلا امرأة واحدة ، فلم تزل به تعرضه للقتل حتى قتل ، وتزوجت امرأته ، قال فنظر فلم ير شيئا ، فعرف ما وقع فيه ، وما ابتلى به ، فخر ساجدا فبكى ، فمكث يبكى ساجدا أربعين يوما ، لا يرفع رأسه إلا لحاجة لا بد منها ، حتى أوحى الله إليه بعد أربعين يوما ، يا داود : ارفع رأسك فقد غفرت لك ...» (١).

وقريب من هذا ما رواه السيوطي في الدر المنثور ، وخلاصته أن داود عليه‌السلام أمر في يوم عبادته ألا يدخل عليه أحد ، وبينما هو يقرأ في الزبور ، إذ جاء طائر مذهب كأحسن ما يكون الطير من كل لون ، ولما حاول داود عليه‌السلام الإمساك به طار منه على كوة المحراب ، ولما أراد مرة ثانية الإمساك به طار خارج الحجرة ، فنظر داود ليراه أي ذهب فإذا به يرى امرأة تستحم عارية ، فلما رأت ظله حركت رأسها فغطت كل جسدها ، فأرسل إليها وعند ما جاءت علم منها أنها امرأة رجل محارب يدعى أوريا ، فأرسل إلى قائد الجيش أن يجعل أوريا من حملة التابوت ، الذين كانوا في مقدمة

__________________

(١) في تاريخ الطبري ١ / ٤٧٩ ـ ٤٨١ ، وانظر روايات أخرى في : تاريخ الطبري ١ / ٤٨١ ـ ٤٨٤ ، الكامل لابن الأثير ١ / ١٢٥ ـ ١٢٦ ، تاريخ اليعقوبي ١ / ٥٢ ـ ٥٣.

٤٦

الجيش ، وكان من يوضع أمامه لا يرجع حتى يقتل ، ولما قتل زوجها وانقضت عدتها خطبها داود لنفسه ، ولكنها اشترطت عليه إن ولدت غلاما أن يكون الخليفة من بعده ، وكتبت بذلك كتابا أشهدت عليه خمسة من بني إسرائيل ، وقد أنجبت له سليمان ، فإنما شبّ تسوّر عليه الملكان المحراب ، فكان شأنهما ما قص الله في كتابه ، وخر داود ساجدا ، فغفر الله له وتاب عليه (١).

وهكذا تابع بعض المؤرخين والمفسرين رواية توراة اليهود المتداولة اليوم ، إلى حد ما ، حين صورت النبي الأواب الذي آتاه الله الحكمة وفصل الخطاب ، وهو يتمشى فوق سطح قصره ، فيرى امرأة رائعة الجمال ، وهي تستحم عارية ، فيسأل عنها بعضا من بطانته ، ويعرف أنها «بتشبع» امرأة أوريا الحثي ، فيرسل إليها من يأتيه بها ، ثم ينال منها وطره ، وهي مطهرة من طمثها ، وسرعان ما تحبل المرأة من فورها ، وحين تتأكد من حملها تخبر داود بالأمر ، فيرسل إلى زوجها يستدعيه من ميدان القتال ، حتى إذا ما ظهر الحمل بعد ذلك على المرأة ظن الناس أنه من زوجها ، غير أن أوريا يأبى أن يدخل على امراته ، ويصر على العودة إلى ميدان القتال ، ومن ثم يأمر داود بأن يوضع أوريا في وجه العدو ، وأن له مثلا برجل يملك نعجة واحدة ، وآخر يملك غنما وبقرا كثيرا ، ثم جاء للغني ضيف فأخذ نعجة الرجل الفقير ، وهيأ منها طعاما لضيفه ، فحكم داود بأن يقتل الرجل الفاعل ذلك ، ويرد النعجة أربعة أضعاف فقال ناثان لداود : أنت هو الرجل (٢).

وهكذا تنتهي رواية العهد القديم الكذوب عند هذا الحد المحزن ، فهل كان النبي الأواب كذلك؟ وهل هذا الاتهام يتجسم مع ما هو معروف عن

__________________

(١) الدر المنثور في التفسير بالمأثور ٥ / ٣٠٠ ـ ٣٠٦.

(٢) صموئيل الثاني ١١ / ١ ـ ٢٧ ، ١٢ / ١ ـ ٢٥ ، وانظر : محمد بيومي مهران : إسرائيل ٣ / ٢٠٣ ـ ٢٠٥.

٤٧

داود عليه‌السلام ، من خلق كريم منذ حداثة سنه؟ وهل من البر أن يخون الإنسان ، أي إنسان ، رجالا في أعراضهم في وقت تدق فيه الحرب طبولها ، إنه التناقض إذن ، وهو لحن يميز اليهود عن سائر البشر ، ولا بأس على الذين يقتلون الأنبياء بغير حق (١) ، أن يدمروا سمعه من لم يقتلوهم أيضا بغير حق ، وكم من حوادث رهيبة تسجلها التوراة من هذا النوع دون تعقيب عليها ، مع أن أحداثها تدور في بيوت الأنبياء (٢).

ومن عجب أننا نقرأ في سفر صموئيل الثاني ، نفس السفر الذي روي القصة الكذوب ، نقرأ على لسان داود عليه‌السلام «يكافئني الرب حسب بري ، حسب طهارة يدي ، يرد علي ، لأنني حفظت طرق الرب ، ولم أعصي إلهي ، لأن جميع أحكامه أمامي وفرائضه لا أحيد عنها ، وأكون كاملا لديه ، وأتحفظ من إثمي ، فيرد الرب على كبرى ، وكطهارتي أمام عينيه» (٣) ، هذا فضلا عن نصوص أخرى من التوراة نفسها تصف داود عليه‌السلام ، وكأنه يعمل المستقيم في عيني الرب ، وأنه الأسوة الحسنة لغيره (٤) ، وأنه كان «يجري قضاء وعدلا لكل شعبة» (٥) ، وأن الرب كان معه حيث توجه (٦) ، لأنه

__________________

(١) انظر : سورة البقرة : آية ٦١ ، ٨٧ ، ٩١ ، آل عمران : آية ١١٢ ، المائدة : آية ٧٠ ، وانظر : تفسير الطبري ٢ / ١٣٩ ـ ١٤٢ ، ٣٢٣ ـ ٣٢٤ ، ٣٥٠ ـ ٣٥٤ ، ٧ / ١١٦ ـ ١١٨ ، ١٠ / ٤٤٧ ، تفسير ابن كثير ١ / ١٤٥ ـ ١٤٧ ، ١٧٥ ـ ١٧٩ ، ٢ / ٧٧ ـ ٨٦ ، ٣ / ١٤٨ ، تفسير المنار ١ / ٢٧٣ ـ ٢٧٦ ، ٣١١ ، ٣١٧ ـ ٣١٨.

(٢) تكوين ١٢ / ١٤ ـ ٢٠ ، ١٩ / ٣٠ ـ ٣٨ ، ٢٠ / ١ ـ ١٨ ، ٢٦ / ١ ـ ١١ ، ٣٤ / ١ ـ ٣٠ ، ٣٥ / ٢٢ ، ٣٨ / ٣٠٦ ، صموئيل ثان ١٣ / ١ ـ ٣٩ ، ١٥ / ١ ـ ١٦ / ٢٣ ، وانظر : محمد بيومي مهران : إسرائيل ـ الكتاب الثالث ـ التوراة والأنبياء ص ١٦٢ ـ ٢١٨.

(٣) صموئيل ثان ٢٢ / ٢١ ـ ٢٥.

(٤) ملوك أول ١١ / ٣٨ ، ١٥ / ٣ ، ملوك ثان ١٨ / ٣ ، هوشع ٣ / ٥.

(٥) صموئيل ثان ٨ / ١٥.

(٦) ملوك أول ٣ / ٣ ـ ٦.

٤٨

كان يسير أمام الرب بأمانة وبر واستقامة ، وأنه كان يحفظ فرائضه ووصاياه ويسلك طريقه (١) ، وأنه كان الناقل لشريعة الرب لشعبه إسرائيل (٢) ، هذا إلى أن التوراة إنما تشير بوضوح إلى أن الرب إنما قد اصطفى من شعبه إسرائيل سبط يهودا ، ومن سبط يهودا بيت داود ، ثم اصطفى من بيت داود ، داود نفسه ، ومن أولاد داود ولده سليمان (٣) ، هذا إلى أن داود عليه‌السلام إنما هو صاحب المزامير المشهورة في التوراة ، وأخيرا فهو ، في مقام النبوة عند بني إسرائيل ، إنما يأتي مباشرة بعد إبراهيم وموسى عليهما‌السلام (٤).

وأما في القرآن الكريم ، فقد وصف داود عليه‌السلام بأنه (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (٥) ، (وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ) (٦) ، (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) (٧) ، (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) (٨) (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٩) ، (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (١٠) ، وفي هذه

__________________

(١) ملوك أول ٣ / ١٤.

(٢) إشعياء ٥٥ / ٣ ـ ٦.

(٣) أخبار أيام أول ٢٨ / ٤ ـ ٥.

(٤) محمد بيومي مهران : إسرائيل ٣ / ٢٠٣ ـ ٢١٠.

(٥) سورة ص : آية ٣٠.

(٦) سورة البقرة : آية ٢٥١. وانظر : تفسير الطبري ٥ / ٣٧١ ـ ٣٧٢ ، تفسير المنار ٢ / ٣٩٢ ـ ٣٩٣ ، تفسير روح المعاني ٢ / ١٧٣ ـ ١٧٤ ، الدر المنثور ١ / ٣١٩ ، تفسير الطبرسي ٢ / ٢٩١ ـ ٢٩٢ ، الجواهر في تفسير القرآن الكريم ١ / ٢٣٠ ، تفسير ابن كثير ١ / ٤٤٧ ، تفسير الكشاف ١ / ٢٩٦.

(٧) سورة النساء : آية ١٦٣.

(٨) سورة النمل : آية ١٥.

(٩) سورة سبأ : آية ١٠ ـ ١١.

(١٠) سورة ص : آية ١٧.

٤٩

الآية يذكر الله تعالى عن عبده ورسوله داود عليه الصلاة والسلام أنه كان ذا أيد ، والأيد : القوة في العلم والعمل ، قال ابن عباس : الأيد القوة ، وقال مجاهد : الأيد القوة في الطاعة ، وقال قتادة : أعطى داود عليه‌السلام قوة في العبادة وفقها في الإسلام ، وقد ذكر لنا أنه عليه‌السلام كان يقوم ثلث الليل ، ويصوم نصف الدهر ، وهذا ثابت في الصحيحين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أحب الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود ، وأحب الصيام إلى الله عزوجل صيام داود ، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه ، وكان يصوم يوما ويفطر يوما ، ولا يفر إذا لاقى» ، وإنه كان أوابا ، وهو الرجاع إلى الله عزوجل في جميع أموره وشئونه (١).

وانطلاقا من كل هذا ، فالقصة التوراتية وما سار على نهجها من قصص ، عن علاقة داود عليه‌السلام ، بزوجة «أوريا» الحشي ، لا يتصور صدق وقائعها من رجل عادي ذي خلق ، وفضلا عن نبي كريم ورسول جليل ، ومن هنا فقد أخطأ بعض المفسرين خطأ كبيرا ، إذ فسروا ما جاء في سورة ص عن الخصمين اللذين اختصما إليه على نحو قريب مما جاء في التوراة (٢) ، مع أن العبارة التي ذكرت بها القصة في القرآن لا تدل على شيء من ذلك ، ومن هنا فقد ختمت هذه الآيات الكريمة بقوله تعالى : (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) ، وبدهي أنه لا يمكن أن تكون الزلفى وحسن المآب للزناة القتلة ، ومن هنا رأينا السّدى يروي عن سيدنا الإمام علي بن أبي طالب ، كرم الله وجهه في الجنة ، أنه قال : «لو سمعت رجلا يذكر أن داود عليه‌السلام قارف من تلك المرأة محرما لجلدته ستين ومائة» ، لأن حد قاذف الناس ثمانون ، وحد قاذف الأنبياء ستون ومائة ، وفي رواية النسفي

__________________

(١) تفسير ابن كثير ٤ / ٤٥ ـ ٤٦ ، تفسير النسفي ٤ / ٣٦.

(٢) انظر : تفسير مقاتل ٣ / ١٢٦٦ ـ ١٢٦٨.

٥٠

قال الإمام علي «من حدثكم بحديث داود عليه‌السلام على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين» ، وهو حد الفرية على الأنبياء ، بل إن ابن العربي يرى أن من قال إن نبيّا زنى فقد كفر (١) ، كما أنكرت جمهرة المفسرين هذه التهمة الكذوب بالإجماع ، كما أن أحدا على الإطلاق لم يقل بأن النبي المعصوم قد قارف من تلك المرأة محرما (٢).

وروى النسفي أنه حدث بذلك عمر بن عبد العزيز ، وعنده رجل من أهل الحق فكذب المحدث به وقال : إن كانت القصة على ما في كتاب الله فما ينبغي أن يلتمس خلافها ، وأعظم بأن يقال غير ذلك ، وإن كانت على ما ذكرت وكف الله عنها سترا على نبيّه ، فما ينبغي إظهارها عليه ، فقال عمر : لسماعي هذا الكلام أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس ، وقال النسفي : والذي يدل عليه المثل الذي ضربه الله بقصته عليه‌السلام ليس إلا طلبه إلى زوج المرأة أن ينزل له عنها فحسب ، وإنما جاءت على طريق التمثيل والتعريض دون التصريح لكونهما أبلغ في التوبيخ من قبل أن التأمل إذا أداه إلى الشعور بالمعرض به كان أوقع في نفسه وأشد تمكنا من قلبه وأعظم أثرا فيه ، مع مراعاة حسن الأدب بترك المجاهرة (٣).

__________________

(١) تفسير القرطبي ص ٥٦٢٥ ـ ٥٦٢٦ ، على عبد الواحد وافي : الأسفار المقدسة في الأديان السابقة للإسلام ـ القاهرة ١٩٦٤ ص ٤٣ ـ ٤٤.

(٢) انظر : تفسير ابن كثير ٤ / ٤٧ ـ ٥٠ ، تفسير البحر المحيط ٧ / ٣٩٣ ، تفسير القاسمي ١٤ / ٥٠٨٩ ـ ٥٠٩٠ ، تفسير البيضاوي ٢ / ١٠٧ ـ ١١٠ ، تفسير الفخر الرازي ٢٦ / ١٨٨ ـ ١٩٨ ، تفسير القرطبي ١٥ / ١٦٦ ، الدر المنثور ٥ / ٣٠٠ ـ ٣٠٦ ، الإكليل للسيوطي ص ١٨٥ ، ابن خرم : المرجع السابق ٤ / ١٨ ، تفسير النسفي ٤ / ٣٧ ـ ٣٩.

(٣) تفسير النسفي ٤ / ٣٨.

٥١
٥٢

الفصل الثّالث

داود ـ ملك بني إسرائيل

١ ـ داود فيما قبل الملكية :

تروي التوراة أن داود كان حامل سلاح شاؤل (طالوت) ، كما كان طلق اللسان فصيحا ، خفيف الروح ، شجاعا بل مقاتلا جبارا ، وداود بن يس من سبط يهوذا ، موطنه بيت لحم ، ونسبه ينتهي إلى يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم‌السلام ، وقد أرسله الله حين غضب على شاؤل ليكون ملكا على إسرائيل ، مختارا إياه من بين أولاد يس الستة على رأي ، والسبعة على رأي آخر ، بل والثلاثة عشر ، فيما تروي المصادر العربية ، وكان أشقر مع حلاوة العينين ، وحسن المنظر ، وفي المصادر العربية عن وهب بن منبه كان قصيرا أزرق قليل الشعر ، طاهر القلب نقيّه (١) ، وكان قبل اشتراكه في الحرب ضد جالوت وقومه مكلفا بالعناية بأغنام أبيه ، وقد أظهر في القيام بهذه المهمة إخلاصا نادرا ، وشجاعة فائقة فقد قتل أسدا ودبّا هاجما القطيع (٢) ، وقد جاء في تاريخ الطبري أنه أتى أباه ذات يوم فقال يا أبتاه : ما أرمي بقذافتي شيئا إلا صرمته ، قال أبشر يا بني إن الله جعل رزقك

__________________

(١) صموئيل أول ١٦ / ١ ـ ١٧ / ١٢ ، أخبار أيام أول ٢ / ١٥ ، تاريخ الطبري ١ / ٤٧٢ ، ٤٧٦ ، ابن كثير : البداية والنهاية ٢ / ١٠ ، الكامل لابن الأثير ١ / ١٢٣.

(٢) صموئيل أول ١٧ / ٣٤ ـ ٣٦.

٥٣

في قذافتك ، ثم أتاه مرة أخرى فقال : يا أبتاه لقد دخلت بين الجبال فوجدت أسدا رابضا فركبت عليه وأخذت بأذنيه فلم يهجني ، فقال أبشر يا بني ، فإن هذا خير يعطيكه الله ، وكان داود راعيا ، وكان أبوه خلّفه يأتي إلى أبيه وإلى أخوته بالطعام (١).

وقد بدأ نجم داود يسطع بين قبائل بني إسرائيل منذ أن قتل جالوت ، فقرّت به عين الملك ، ووعده بأن يزوجه ، ابنته الكبرى «ميرب» ولكنه زوجها إلى «عدريئيل المحولي» ولما أحبته أختها «ميكال» وعده بها على أن يمهره إياها مائة غلفة من الفلسطينيين (٢) ، ولكن يبدو أن الشعبية التي اكتسبها داود قد جعلت الملك يعدل عن الإصهار إليه ، وإن كانت الرواية العربية تذهب إلى أن طالوت رجع فأنكح داود ابنته ، وأجرى خاتمه في ملكه ، فمال الناس إلى داود وأحبوه (٣) ، ومن ثم فقد بدأ طالوت يخاف داود «وصار شاؤل (طالوت) عدوا لداود لكل الأيام» (٤) بل «وكلم ، شارل يوناثان ابنه وجميع عبيده أن يقتلوا داود» ، ولكنه سرعان ما يعفو عنه نتيجة توسلات ولده يوناثان ، صديق داود ، غير أنه سرعان ما يغير رأيه مرة أخرى ويفكر في قتل داود ، فيطعنه بالرمح ولكنه يخطئه ، فيفر داود من أمامه ، فيزداد غضب طالوت ، وتتأجج نار الغيرة في صدره فيرسل إلى داود من يقتله في بيته «فأخبرت داود ميكال امرأته قائلة إن كنت لا تنجو بنفسك هذه الليلة فإنك تقتل غدا ، فأنزلت ميكال داود من الكوة فذهب هاربا ونجا» ، ووضعت في مكانه على الفراش الترافيم ولبدة المغري وغطته بثوب (٥) ، وفي الرواية

__________________

(١) تاريخ الطبري ١ / ٤٧٢ ، تاريخ ابن الأثير ١ / ١٢٣.

(٢) صموئيل أول ١٨ / ٧ ـ ٢٩.

(٣) تاريخ الطبري ١ / ٤٧٣ ، تاريخ ابن الأثير ١ / ١٢٤.

(٤) صموئيل أول ١٨ / ٢٩.

(٥) صموئيل أول ١٩ / ١ ـ ١٧.

٥٤

العربية أن داود لما علم أن طالوت يريد قتله ، جعل في مضجعه زقّ خمر وسجاه ، ودخل طالوت إلى منام داود ، وقد هرب داود ، فضرب الزق ضربة خرقة فوقعت قطرة من الخمر في فيه فقال : يرحم الله داود ما كان أكثر شربه الخمر (١) ، فلما أصبح طالوت علم أنه لم يصنع شيئا ، فخاف داود أن يغتاله فشدّد حجابه وحراسه ، ثم إن داود أتاه من المقابلة في بيته وهو نائم ، فوضع سهمين عند رأسه وعند رجليه ، فلما استيقظ طالوت بصر السهام فقال : يرحم الله داود هو خير منى ، ظفرت به وأردت قتله وظفر بي فكف عني ، وأذكى عليه العيون فلم يظفروا به ، وركب طالوت يوما فرأى داود فركض في إثره ، فهرب داود منه واختفى في غار في الجبل (٢).

وهكذا اضطر داود للفرار من مكان إلى آخر ، معرضا حياته للخطر ، ومع ذلك فلم يذهب إلى موطنه في بيت لحم (٥ أميال جنوب القدس) وإنما ذهب إلى صموئيل النبي في الرامة (رامة الله) ومن هناك إلى «نوب» (مدينة الكهنة) حيث يعيش «أخيمالك» الكاهن ، الذي دفع حياته ، وكذا مدينته بما فيها من رجال ونساء وأطفال وماشية ، ثمنا لإيوائه داود (٣) ، وهكذا ضيق طالوت الخناق على داود ، حتى اضطره أن يودع أباه وأمه عند ملك مؤاب ، وأن يلجأ هو إلى ملك «جت» الفلسطيني ، وحين لم يأمن مكره ، لجأ هو ، إلى مغارة «عدلام» حيث جمع هناك من حوله أربعمائة رجل من مريدية (٤).

__________________

(١) تاريخ الطبري ١ / ٤٧٣ ، تاريخ ابن الأثير ١ / ١٢٤.

(٢) تاريخ الطبري ١ / ٤٧٣ ، تاريخ ابن الأثير ١ / ١٢٤.

(٣) صموئيل أول ١٩ / ١٨ ـ ٢٢ / ٢٣ ، قارن : تاريخ الطبري ١ / ٢٧٣ ، تاريخ ابن الأثير ١ / ١٢٤.

(٤) صموئيل أول ٢١ / ١٠ ـ ١٥ ، ٢٢ / ١ ـ ٥ ، وانظر : محمد بيرمي مهران : إسرائيل ٢ / ٦٩٧ ـ ٧٠١.

٥٥

٢ ـ اختيار داود ملكا على يهوذا :

سرت الأنباء من كل أرجاء البلاد ، كما تسري النار في الهشيم ، بأن طالوت قد مات ، وأن أولاده الثلاثة (يوناثان وأبيناداب وملكيشوع) لقوا نفس المصير ، وأن الإسرائيليين قد هزموا شر هزيمة في معركة جبل جلبوع (حوالي عام ١٠٠٠ ق. م) وأن البلاد قد عادت مرة أخرى تحت النيّر الفلسطيني (١) ، وقد أدى ذلك إلى قيام صراع مرير بين القبائل الإسرائيلية على السلطة ، خاصة وأن صموئيل النبي كان قد مسح داود أثناء حياته خليفة لطالوت ، وإن لم يناد به ملكا على إسرائيل ، وفي نفس الوقت كان «إيشبعل» بن شاؤل (طالوت) قد اعتبر نفسه الخليفة الشرعي لأبيه بعد وفاته ، فضلا عن وفاة إخوته الكبار ، وكان يسانده في ذلك «أبنير» قائد جيش أبيه ، وأحد أمراء بيته ، ومن ثم فقد نودي به ملكا في «محانيم» (شمالي عجلون بميلين) عاصمة منطقة أفرايم في أرض جلعاد ، جنوب يبوق ، حيث ذكرى أعمال أبيه شاؤل الجرئية منذ سنوات مضت ما تزال باقية هناك ، وعلى أية حال ، فقد شملت ملكية إيشبعل مناطق غير محددة لقبائل الجبال في شرق الأردن وفي الجليل والسامرة ، وقد أطلق إيشبعل على نفسه ، كما فعل أبوه من قبل ، لقب ، «ملك إسرائيل» وأدعى أنه يحكم كل القبائل الإسرائيلية ، ولكن بما أن القبائل الجنوبية قد انفصلت (تحت حكم داود) عن القبائل الأخرى ، فإن التصور السياسي لإسرائيل تحت حكم «إيشبعل» إنما كان يشمل فقط الجزء الأكبر من القبائل فحسب (٢).

وفي نفس الوقت كانت يهوذا قد مسحت داود ملكا على بيت يهوذا في

__________________

(١) H. R. Hall. The Ancient History of the Near East. ٣٥٩.p ، ١٩٦٣ ، CAH.III. ٤٢٦.p ، ١٩٦٥. M. Noth. op ـ cit. p. ١٨٠ ـ ١٧٧. وكذا

(٢) M.Noth.op ـ cit.p. ١٨٤ ـ ١٨١.

٥٦

حبرون (مدينة الخليل) أو ممرا (١) ، وليس هناك من شك في أن شخصية داود نفسه كان لها دور كبير في إغراء القبائل الجنوبية لاتخاذ هذه الخطوة ، فقد كان لتأثيره الشخصي أثر كبير ، ما في ذلك ريب ، كما أنه كحامل لدرع طالوت قد جعل منه شخصا محبوبا لكل من حوله ، وهو بالنسبة للقبائل الجنوبية رجل من دائرتهم ، وقد برهن بنفسه ، بعد انفصاله عن طالوت ، أنه بالتأكيد رجل من القبائل الجنوبية ، وإن كان النظام الملكي قد انتهى سريعا ، فإن طالوت هو الملام لفشله ، وقد ساهم المركز الخاص والثابت للقبائل الجنوبية بدور أساسي في الموقف دون شك ، وقد استغل داود هذا الموقف لصالحه ، كما كانت شخصية داود وعلاقاته وحاشيته الحربية ، هي الأساس في تنصيبه ملكا على كل بيت يهوذا ، هذا فضلا عن أن رجال الدين كانوا موالين له ، كما أن اختيار النبي صموئيل له من قبل ، قد لاقى قبولا حسنا من غالبية القوم (٢).

وأما الفلسطينيون ، أعداء بني إسرائيل ، فكانوا يرقبون الموقف عن كثب ، وكان يهمهم في الدرجة الأولى أن تظل فلسطين تحت سيادتهم تماما ، وربما رأوا في قيام مملكتين إسرائيلين منفصلتين مما يحقق أعراضهم ، بل ربما كان الفلسطينيون من وراء قيام هاتين المملكتين ، الواحدة في حبرون ، وعلى رأسها داود ، والأخرى في الشمال ، وعلى رأسها «إيشبعل» وربما كانت هذه المملكة الشمالية تحت السيادة الفلسطينية ، وفي كل الحالات فإن الوضع الجديد كان في مصلحة الفلسطينيين الذين ما كانوا أبدا بكارهين أن يروا أعداءهم الإسرائيليين ضعافا عن طريق الانقسام الداخلي (٣) ،

__________________

(١) صموئيل ثان ٢ / ٤.

(٢) H.R.Hall ,CAH.III ,Cambridge , ٤٢٧.p ، ١٩٦٥. وكذاM.Noth ,op ـ cit ,p. ١٨٣ ـ ١٨٢.

(٣) K.M.Kenyon ,Archaeology in the Holy Land ,Lond , ٢٤٠.p ، ١٩٧٠. كذاThe Jewish Encyclopdedia , ٤٥٢.p ، ١٩٠٣.

٥٧

والذي يقضي بالتأكيد على تحالف القبائل الاثني عشر ، كوحدة سياسية وحربية ، خاصة وأن داود ، ومن ورائه القبائل الجنوبية كانوا يعملون على استمرار هذا التحالف ، ومن هنا فقد سكت الفلسطينيون مؤقتا على ما يجري من أحداث ، لأنهم لم يجدوا سببا لمساعدة طرف على آخر ، كما كانوا قانعين بترك مواليهم من بني إسرائيل يحطم بعضهم البعض الآخر (١).

٣ ـ داود وتوحيد إسرائيل :

كان طموح داود أعظم وأكبر من أن تكفيه منطقة ضئيلة في أقصى جنوب فلسطين ، كالتي اعترفت بسلطانه ، فبدأ يرنو بناظرية إلى الشمال ، الذي استقل تحت حكم إيشبعل الضعيف ، وكان الصدام بين الحزبين المتنافسين أمرا لا مفر منه ، وهكذا بدأ داود يعد عدته سياسيا وعسكريا لاستعادة وحدة إسرائيل ، ومن ثم فإنه لا يكتفي بعلاقاته الودية مع القبائل الجنوبية ، ولكنه يمدها إلى شرق الأردن ، ومن ثم فقد تزوج من ابنة ملك «جشور» الآرامي ، لأن مملكته كانت مجاورة ليابيش جلعاد ، حيث لجأ إيشبعل وتحصن هناك ، كما أنه دخل في حلف مع ملك عمون ، ليطبق كماشته على إيشبعل ، ونقرأ في التوراة أن داود بدأ يتفاوض مع رجال عدوه ويدفعهم إلى الانضمام إليه ، وقد أجابه كثيرون ، وهكذا أصبح الموقف العام في يهوذا ضد إسرائيل ، بل وبدأت يهوذا تستغل مشاكل إسرائيل لمصلحتها (٢).

ثم سرعان ما لبثت يهوذا وإسرائيل ، تحت حكم داود وإيشبعل ، أن

__________________

(١) M.Noth ,Op ـ cit ,p. ١٨٣. وكذاH.R.Hall ,Op ـ cit.P. ٤٢٧.

(٢) صموئيل ثان ٢ / ٨ ، محمد بيومي مهران : إسرائيل ٢ / ٧٠٦ ـ ٧١٠ ، إسماعيل راجي الفاروقي : أصول الصهيونية في الدين اليهودي ـ القاهرة ١٩٦٤ ص ٤٤ ـ ٤٥ ، وكذاS.A.Cook ,CAH ,II , ٣٧٣.p ، ١٩٣١.

٥٨

غرقتا في اشتباكات عسكرية في منطقة الحدود ، وعند ما قرر «جبنير» قائد جيش إيشبعل ، غزو مملكة داود الصغيرة ، وضمها لمملكة إسرائيل ، فقد هزم في «جبعون» على يد «يوآب» قائد جيش داود (١) ، وقد كشفت البعثات الأمريكية عام ١٩٥٦ م أسوار مدينة «جبعون» (٧ أميال شمالي القدس) ، كما اكتشفت كذلك مشهد المعركة الدموية في تلك الأيام الخوالي من بداية الألف الأولى قبل الميلاد ، وطبقا لرواية التوراة ، فلقد حدث قتال عنيف في هذه البقعة يدا بيد بين أعوان المتنافسين (٢) ، وسرعان ما قتل إيشبعل ، وخلص حكم بني إسرائيل لداود وحده ، ودانت له الأسباط جميعا (٣) وجاء جميع شيوخ إسرائيل إلى الملك ، إلى حبرون ، فقطع الملك داود معهم عهدا في حبرون أمام الرب ، ومسحوا داود ملكا على إسرائيل ، وكان داود ابن ثلاثين سنة حين ملك ، وملك أربعين سنة ، في حبرون ملك على يهوذا سبع سنين وستة أشهر ، وفي أورشليم ملك ثلاثا وثلاثين سنة على جميع إسرائيل ويهوذا» (٤) ، وقد أشرنا من قبل إلى الآراء المختلفة التي دارت حول تحديد الفترة التي حكم فيها داود عليه‌السلام ، وارتضينا أن نأخذ بما ذهب إليه «وليم أولبرايت» من أنها في الفترة (١٠٠ ـ ٩٦٠ ق. م) (٥).

٤ ـ داود والفلسطينيون :

لم يتقبل الفلسطينيون عن رضى اتحاد قوى اليهودية وإسرائيل في دولة

__________________

(١) W.Keller ,Op ـ cit ,P. ١٨٨.

(٢) صموئيل ثان ٢ / ١٣ ـ ٣٢ ، وكذاJ.B.Pritchard ,BA , ٧٥ ـ ٦٢.p ، ١٩٥٦ ، ١٩ ، UMB. ٢٦ ـ ٣.p ، ١٩٥٧. ٢١. W. Keller, Op ـ cit. p. ١٨٨. وكذا

(٣) صموئيل ثان ٢ / ١٣ ـ ٤ / ١٢ ، وكذاM.Noth ,op ـ cit ,p. ١٨٦ وكذاThe Jewish Encyclopaedia , ٤٦١.p ، ٤.

(٤) صموئيل ثان ٥ / ٣.

(٥) W.F.Alleright.Op ـ cit.p. ١٢٢ ـ ١٢٠.

٥٩

واحدة ، تحت زعامة داود ، البطل الجديد ، ومن ثم فقد بدءوا يفكرون في مقاومة هذه الوحدة ، التي كانت ، دونما ريب ، تمثل تهديدا خطيرا لسيطرتهم على فلسطين (١) ، ونقرأ في التوراة «وسمع الفلسطينيون أنهم مسحوا داود ملكا على إسرائيل ، فصعد جميع الفلسطينيين ليفتشوا على داود ، واحتلوا وادي الرفائيين» (٢) (وادي البقاع جنوب غربي القدس على الأرجح) ذلك لأن منطقة القدس هي التي تفصل المناطق التي تحتلها إسرائيل عن تلك التي تحتلها يهوذا ، وبهذا قطعوا اتصال داود بالأسباط الشماليين أو على الأقبل عملوا على منع تجميع جيوش المملكتين.

وشرع داود يستعد بفرقته من الجنود المحترفين ، وربما قام بهجوم مفاجئ قرب وادي جبعون ، نجح فيه في قهر الفلسطينيين تماما ، وهزيمتهم باستخدام أسلوبهم الحربي ، فلم يواجههم ، كما فعل طالوت ، بالجانب الأكبر من قواته ، وإنما بفرقة من المحترفين التي ربما كانت قد عززت وتطورت أثناء حكم داود في يهوذا (٣) ، وكان لديهم الفهم المحترف لفن

__________________

(١).M.Noth ,op ـ cit.p. ١٨٧.

(٢) صموئيل ثان ٥ / ١٧ ـ ١٨.

(٣) كان جيش إسرائيل على أيام داود يتكون من عنصرين هما : (١) السبا (Saba) أي أفراد الحرس الملكي ، وهم جماعة من رجال القبائل الأقوياء يستدعون بصوت النفير ، وبرفع الأعلام أو إشعال النار على التلال ، وهي قوات بدون زي موحد كان تجميعها ووضعها تحت السلاح يعتمد على الإرادة الفردية الجيدة ، وكان داود يستخدمهم ضد الشعوب المجاورة في شرق الأردن ، وكانوا يحملون مع التابوت إلى أرض المعركة ، ومن الواضح أن داود كان ينظر إلى التابوت بأهمية كبيرة ، فهو إلى جانب قيمته الدينية ، إنما كان يمثل تحالف القبائل الإسرائيلية جميعا.

(٢) الجبوريم (Gibborim) وهي القوات الدائمة وقد تكونت نواتها الأولى من ستمائة مقاتل كانوا قد تجمعوا حول داود عند ما هرب عن طالوت ، وكانوا يسمعون «رجال داود الأقوياء» وإن لم يكونوا جميعا من بني إسرائيل ، بل إن معظمهم من شعوب أجنبية (ومنهم أوريا الحشي) وكانوا ينتمون إلى داود شخصيا ، وليس إلى القبائل الإسرائيلية ، وكانوا سلاحه في خطواته ـ

٦٠