دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٣

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٣

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٠

عجلناهم لك في الدنيا ، وإن شئت كانوا لك في الآخرة وآتيناك مثلهم في الدنيا ، فقال : يكونون لي في الآخرة ، وأوتي مثلهم في الدنيا ، قال : فرجع إلى مجاهد فقال أصاب» (١).

على أن هناك وجها آخر للنظر ، ذهب إليه ابن مسعود وابن عباس وقتادة ومقاتل والكلبي وكعب والحسن البصري والسدى يقول إن الله تعالى أحيا له أهله ، يعني أولادهم بأعيانهم ، قال ابن مسعود : مات أولاده سبعة من الذكور ، وسبعة من الإناث ، فلما عوفي أحيوا له ، وولدت له امرأته سبعة بنين وسبع بنات ، وقال ابن عباس : لما دعا أيوب استجاب الله له ، وأبدله بكل شيء ذهب له ضعفين ، رد إليه أهله ومثلهم معهم ، وفي روح المعاني : قال ابن مسعود والحسن وقتادة في الآية : إن الله تعالى أحي له أولاده الذين هلكوا في بلائه ، وأوتي مثلهم في الدنيا ، وقال الألوسي : والظاهر أن المثل من صلبه عليه‌السلام أيضا ، ويميل الإمام الرازي إلى هذا الرأي الثاني لأنه هو الظاهر ، فلا يجوز العدول عنه من غير ضرورة ، غير أن صاحب الظلال يقول إنه ليس في النص ما يحتم أنه أحيا له من مات ، وقد يكون معناه أنه بعودته إلى الصحة والعافية قد استرد أهله الذين كانوا بالنسبة إليه كالمفقودين ، وأنه رزقه بغيرهم زيادة في الإنعام والرحمة والرعاية ، مما يصلح ذكرى لذوي العقول والإدراك ، ويقول الأستاذ الصابوني في صفوة التفاسير إن القول بأن الله أحيا أولاده بعد موتهم فيه نظر ، لأنه لا يرجع أحد إلى الدنيا بعد انتقاله منها ، إلا ما كان من معجزة المسيح عليه‌السلام ، والصحيح أن الله تعالى عوّضه من زوجته أولادا مثل من فقدهم (٢).

__________________

(١) تفسير الطبري ١٧ / ٧٢.

(٢) تفسير الفخر الرازي ٢٢ / ٢١٠ ، ٢٦ / ٢١٥ ، تفسير الطبري ١٧ / ٧٢ ـ ٧٣ ، ٢٣ / ١٦٧ ـ ١٦٨ ، تفسير روح المعاني ١٧ / ٨١ ، تفسير ابن كثير ٣ / ٣٠٣ ـ ٣٠٤ ، ٤ / ٦١ ، تفسير النسفي ٣ / ٨٧ ، في ظلال القرآن ٥ / ٣٠٢٢ ، صفوة التفاسير ٢ / ٢٧٢.

٢٢١

وأما قوله تعالى : (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (١) ، فأما «الضغث» فهو ما يحمل من شيء مثل حزمة الرطبة ، وكملء الكف من الشجر أو الحشيش والشماريخ ونحو ذلك مما قام على ساق ، وفي تفسير النسفي هو حزمه صغيرة من حشيش أو ريحان أو غير ذلك ، وعن ابن عباس : قبضة من الشجر ، وعن قتادة : كانت امرأته قد عرضت له بأمر ، وأرادها إبليس على شيء ، فقال : لو تكلمت بكذا وكذا ، وإنما حملها عليها الجزع ، فحلف نبيّ الله : لئن الله شفاه ليجلدنها مائة جلدة ، قال : فأمر بغصن فيه تسعة وتسعون قضيبا ، والأصل تكملة المائة ، فضربها ضربة واحدة ، فأبر نبيّ الله ، وخفف الله عن أمته ، والله رحيم ، وفي رواية في تفسير النسفي : كان أيوب حلف في مرضه ليضربن امرأته مائة إذا برأ ، فحلل يمينه بأهون شيء عليه وعليها لحسن خدمتها إياه ، وهذه الرخصة باقية ، ويجب أن يصيب المضروب كل واحدة من المائة ، والسبب في يمينه أنها أبطأت عليه ذاهبة في حاجة ، فخرج صدره ، وقيل باعت ذؤابتيها برغيفين ، وكانتا متعلق أيوب إذا قام ، ويذهب الفخر الرازي إلى أنه يبعد ما قيل إنها رغبته في طاعة الشيطان ، ويبعد أيضا أنها خالفته في بعض المهمات ، وذلك أنها ذهبت في بعض المهمات فأبطأت فحلف في مرضه ليضربنها مائة إذا برأ ، ومن ثم فرحمة من الله به وبزوجة التي قامت على رعايته وصبرت على بلائه وبلائها به ، أمره الله أن يأخذ مجموعة من العيدان بالعدد الذي حدده ، فيضربها به ضربة واحدة ، تجزئ عن يمينه فلا يحنث فيها (٢).

ويذهب الرازي والنسفي إلى أن هذه الرخصة باقية ، وهي اليوم في الناس

__________________

(١) سورة ص : آية ٤٤.

(٢) تفسير الطبري ٢٣ / ١٦٨ ـ ١٦٩ ، تفسير النسفي ٤ / ٤٣ ، تفسير الفخر الرازي ٢٦ / ٢١٥ ، في ظلال القرآن ٥ / ٣٠٢٢.

٢٢٢

يمين أيوب من أخذ بها فهو حسن ، وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه أتى بمجذم خبث بأمة فقال : «خذوا عثكالا فيه مائة شمراخ فاضربوه به ضربة» ، وهكذا أمر الله أيوب أن يبرّ بيمينه بأهون شيء عليه وعليها ، قال ابن كثير : وهذا من الفرج والمخرج لمن اتقى الله وأطاعه ، ولا سيما في حق امرأته الصابرة المحتسبة ، المكابدة الصّديقة ، البارة الراشدة ، ولهذا عقب الله هذه الرخصة وعلّلها بقوله : (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) ، ثم عقب ابن كثير على الرخصة بأن كثيرا من الفقهاء قد استعمل هذه الرخصة في باب الإيمان والنذور ، وتوسع آخرون فيها حتى وضعوا كتاب الحيل في الخلاص من الأيمان ، وصدوره بهذه الآية ، وأتوا فيه بأشياء من العجائب والغرائب (١).

(٢) سفر أيوب : ـ

من المعروف أن لأيوب عليه‌السلام سفرا في العهد القديم (٢) ، ومكانه في الترجمة السريانية (٣) بين سفري التثنية ويشوع ، وقد اختلف الباحثون في السفر وفي صاحبه ، فيرى فيه شراح التوراة القدامى تاريخا حقيقيا ، وينسبه بعضهم إلى موسى عليه‌السلام ، غير أن كثيرا من الباحثين يرون أن أيوب أقدم من موسى (٤) ، عليهما‌السلام ، بل ويحددون له تاريخا حوالي عام ١٥٢٠ قبل الميلاد (٥) ، غير أن هناك فريقا يذهب إلى أن أيام عاش على أيام يعقوب عليه‌السلام (١٧٨٠ ـ ١٦٣٣ ق. م) وقد تزوج من ابنته «دينة» (٦) ،

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ٢٦ / ٢١٥ ، تفسير النسفي ٤ / ٤٣ ، البداية والنهاية ١ / ٢٢٤ ـ ٢٢٥.

(٢) انظر عن سفر أيوب (محمد بيومي مهران : إسرائيل ٣ / ٦٧ ـ ٧٣).

(٣) انظر عن الترجمة السريانية للتوراة (محمد بيومي مهران : إسرائيل ٣ / ١١٥).

(٤) أنظر عن تاريخ موسى عليه‌السلام والآراء التي دارت حوله (محمد بيومي مهران : إسرائيل ١ / ٢٨١ ـ ٤٥٥).

(٥) باروخ سبينوزا : رسالة في اللاهوت والسياسة ـ القاهرة ١٩٧١ ص ٣١٥ (مترجم.

(٦) نفس المرجع السابق ص ٣١٥ ، ثم قارن : تفسير روح المعاني ١٧ / ٨٠ ، تاريخ الطبري ١ / ٣٢٢ ، البداية والنهاية ١ / ٢٢١.

٢٢٣

بدليل قول الكاتب في مستهل السفر «رجل في أرض عوص» (١) ، فضلا عن الإشارة إليه في سفر حزقيال (٢) ، على أن فريقا رابعا ، ومنهم موسى بن ميمون وبعض الأحبار ، أنما يحسبون سفر أيوب هذا مجرد قصة روائية للموعظة فحسب (٣) ، وبدهي أن هذا ليس صحيحا ، فصاحب السفر هو نبيّ الله أيوب عليه‌السلام ، وقصته صادقة ، الصدق كل الصدق ، كما أخبرنا القرآن الكريم وحديث المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ويذهب الحبر اليهودي «إبراهام بن عزار» (١٠٩٢ ـ ١١٦٧ م) ، ويوافقه سبينوزا وغيره ، إلى أن سفر أيوب إنما قد ترجم إلى العبرية من لغة أخرى (٤) ، بل إن الترجمة السبعينية (٥) للتوراة أنما تنص صراحة على أن السفر مترجم عن السريانية (الآرامية) (٦) ، ومن هنا اتجه البعض إلى اعتبار أيوب عليه‌السلام ، عربيا ، وليس يهوديا ، وأن سفره هذا ما هو إلا ترجمة لأصل عربي مفقود (٧) ، ولعل الأديب الفرنسي «فرنسوا فولتير» (١٦٩٤ ـ ١٧٧٨ م) كان أول من نادى في العصر الحديث بأن أيوب وسفره أقدم من التوراة ، وأن العبريين قد أخذوه عن العرب وترجموه إلى لغتهم ، ويستدل على ذلك بأدلة ، منها (أولا) أن اسم الشيطان الذي يشغل مكانا رئيسيا في السفر ، ليس كلمة عبرية ، بل كلدانية ، ومنها (ثانيا) أن أصدقاء أيوب إنما

__________________

(١) أيوب ١ / ١.

(٢) حزقيال ١٤ / ١٤.

(٣) سبينوزا : المرجع السابق ص ٣١٥.

(٤) فؤاد حسنين : المرجع السابق ص ١٤٤.

(٥) أنظر عن الترجمة السبعينية للتوراة (محمد بيومي مهران : إسرائيل ٣ / ١٠٧ ـ ١١٢).

(٦) فؤاد حسنين : المرجع السابق ص ١٤٤.

(٧) D. D. Margoliouth, The Relations between Arabs and Israelities Prior to the Rise of Islam, London, ٣٠.p ، ١٩٢٤ وكذاF.Foster ,AJSL , ٣١.p ، ١٩٣٢ وكذا J. A. Montgomery, Arabia and the Bible, Philadelphia, ١٧٢.p ، ١٩٣٤ وكذاM.F.Unger ,op ـ cit ,P. ٥٩٣.

٢٢٤

كانوا فيما يبدو ، من العرب ، اليعازر من تيمان ، وبلد كان شوحيا من منطقة السويس ، فيما يرى فولتير ، وصوفر كان من نعمات (١).

ومنها (ثالثا) ما لاحظه الباحثون من ذكر «الجمال» عند الحديث على ثروة أيوب من الماشية ، ونحن نعلم أن لحوم الإبل محرمة على اليهود ، وأنها لم تذكر بين ثرواتهم إلا نادرا ، بل إن اسم أيوب نفسه لا مثيل له في أسماء العبريين (٢) ، ومنها (رابعا) ما جاء في السفر من أن أيوب رجل من أرض «عوص» ، وأرض «عوص» هذه ، وإن اختلف العلماء في مكانها ، فالراجح عندهم أنها في بلاد العرب ، أو في مناطق يسكنها عرب (أي في نجد وعمان أو في شمال بلاد العرب ، في شمال غربي المدينة المنورة ، أو في بلاد الشام ، في حوران أو في اللجاة ، أو على حدود وأدوم أو في أدوم نفسها ، أو في شرقي فلسطين أو جنوبها الشرقي) وبعبارة أخرى ، فهي أما في شبه الجزيرة العربية أو في بادية الشام (٣) ، ولعل تحديدها ببادية الشام ربما كان هو الأرجح ، وذلك لسببين ، الأول : ما ذكره معظم المفسرين والمؤرخين من أن أيوب من ولد العيص ، وهو عيسو بن إسحاق بن إبراهيم عليهم‌السلام ، والذي كان يسمى كذلك «أدوم» (الأحمر) وإليه ينسب الآدوميون الذين كانوا يسكنون في أقصى بلاد شرق الأردن وجنوب وادي الحسا ، والثاني : ما جاء في حديث أبي ذر المشهور في ذكر الأنبياء والمرسلين ، حيث يقول سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وأربعة من العرب : هود وصالح وشعيب

__________________

(١) أيوب ٢ / ١١ ، حسن ظاظا : الفكر الديني الإسرائيلي ص ٥٥ ، وكذا F. Voltaire, Dictionnaire PhilosoPhique Paris ـ Garnnier, ٢٦٠ ـ ٢٥٧.p ، ١٩٥٤.

(٢) حسن ظاظا : المرجع السابق ص ٥٦.

(٣) جواد علي : المرجع السابق ١ / ٦٣١ ، قاموس الكتاب المقدس ١ / ١٤٨ ، وكذا J. Hastings, A Dictionary of the Bible, P. ٤٦٩ ، ٢٠٠.

٢٢٥

ونبيك يا أبا ذر» (١) وفي رواية «وأربعة من العرب : هود وصالح وشعيب ومحمد عليه‌السلام» (٢).

على أن هناك فريقا من العلماء يذهب إلى أن أيوب عليه‌السلام كان مصريا ، وذلك بدليل الأثر الثقافي المصري الذي يطل علينا من ثنايا هذا السفر في مواضع كثيرة ، فسفر أيوب في الواقع ما هو إلا صورة صادقة لقصة المتشائم المصري القديم (٣) ، (اليائس من الحياة) (٤) ، هذا فضلا عن ذكره للأهرام والمقابر التي يبنيها الملوك لأنفسهم ، وأخيرا ذكره للثواب والعقاب والحياة بعد الموت ، وعدم ضياع الناس في متاهات «شيول» (٥) ، كما آمن بذلك الأولون ، والمعروف أن العبريين ، طبقا لما جاء في كتبهم المتداولة اليوم ، وليس كما جاء بها أنبياء الله ، قد عرفوا عقيدة الحياة بعد الموت في حقبة متأخرة من تاريخهم ، ربما في القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد (٦) ،

__________________

(١) تفسير ابن كثير ١ / ٨٩١ ـ ٨٩٢ (بيروت ١٩٨٦) ، البداية والنهاية ١ / ١٢٠.

(٢) تفسير النسفي ١ / ٢٦٣ ـ ٢٦٤.

(٣) فؤاد حسنين : المرجع السابق ص ١٤٥.

(٤) أنظر : عن اليائس من الحياة (محمد بيومي مهران : الثورة الاجتماعية الأولى في مصر الفراعنة ص ١٠ ـ ١٢.

(٥) شيول : كان العبرانيون ، كما يفهم من نصوص العهد القديم ، يعتقدون أنه من غير الممكن للإنسان أن يتلقى البركات وحكم الرب إلا في هذه الدنيا فقط ، وبجسده فقط ، والعودة إلى الأرض هي البعث ، ذلك لأن الروح تنزل عند الموت إلى عالم سفلي يدعى «شيول» (Sheol) ، وكانت شيول هذه ، أو العالم السفلي ، تعني نقيض ما تعني به الضوء والحياة ، وهي منطقة تقرب من العدم والنسيان ، تنظر إلى البشر كوحوش ، وتغلق عليهم أبوابها دونما أي احتمال للهروب ، إن سكانها من الأموات مجرد ظلال ، يتميزون بالضعف الشديد ، وهم منقطعون عن تبعية الرب ، «لأنه ليس في الموت ذكرك ، في الهاوية من يحمدك» (مزمور ٨٨ / ١٠ ، ١٠٧ / ١٨ ، أيوب ٧ / ٩ ، ٢٦ / ٥ ـ ٦ ، أمثال ٢ / ١٨ ، إشعياء ١٤ / ٩ ـ ١١ ، ٢٦ / ١٤ ، ١٩ ، وكذا.E.W.Heaton ,The Old Testament Prophets , (١٣٧.p ، ١٩٦٩.

(٦) أنظر عن الحياة بعد الموت عند بني إسرائيل (محمد بيومي مهران : النبوة والأنبياء عند بني إسرائيل ص ١٠٢ ـ ١٠٦).

٢٢٦

الأمر الذي سبقهم إليه المصريون بآلاف السنين (١).

وعلى الجملة ، وكما يقول الأستاذ العقاد ، يبدو سفر أيوب غريبا في موضعه وموضوعه بين أسفار العهد القديم ، ولم يكن من عادة بني إسرائيل أن يجمعوا كتابا لغير أنبيائهم المتحدثين عن ميثاقهم وميعادهم ، ولكنهم جمعوا هذا السفر مع الأسفار المشهورة لأنهم وجدوه في بقاع فلسطين الجنوبية ، محفوظا يتذاكره الرواة ، وحسبه بعضهم من كلام موسى ، وبعضهم من كلام سليمان ولا عجب أن يشيع هذا الكتاب العجيب ، حيث تسامع به الناس ، فإنه عزاء للمتعزين ، وعبرة صالحة للمعتبرين ، ولا تزال قصة أيوب منظومة شائعة يتغنى بها شعراء اللغة الدارجة في مصر والشام (٢).

وأما زمن كتابة سفر أيوب ، فهو موضع خلاف بين الباحثين ، فهناك من يرجحه إلى عصر الآباء الأوائل ، بل إن «هاليس» إنما يجعل من عام ٢٣٠٠ ق. م تاريخا لأيوب ، اعتمادا على أن السفر لم يشر بكلمة واحدة إلى خروج بني إسرائيل من مصر ، والذي نراه حوالي عام ١٢١٤ ق. م (٣) ، فضلا عن المدن التي دمرتها الزلازل وقت ذاك ، كما أنه لم يرد في صلب السفر أي ذكر ليهوه رب إسرائيل ، وإنما ورد ذلك في المقدمة والذيل ، وهما مضافان بعد عصره ، كما هو راجح عند شراح التوراة (٤).

على أن هناك وجها آخر للنظر يذهب إلى أن سفر أيوب أنما كتب على أيام سليمان عليه‌السلام (٩٦٠ ـ ٩٢٢ ق. م) ، وحجتهم أنه يحمل بين ثناياه

__________________

(١) حبيب سعيد : المدخل إلى الكتاب المقدس ص ١٥٣.

(٢) عباس العقاد : إبراهيم أبو الأنبياء ص ١٦٣.

(٣) أنظر عن تاريخ خروج بني إسرائيل من مصر والآراء التي دارت حوله (محمد بيومي مهران : إسرائيل ١ / ٣٥٧ ـ ٤٣٩).

(٤) عباس العقاد : المرجع السابق ص ١٦٠ ـ ١٦١ ، قاموس الكتاب المقدس ١ / ١٤٨.

٢٢٧

إشارات من ذلك العهد (١) ، على أن هناك وجها ثالثا للنظر يذهب إلى أن السفر قد كتب قبل السبي البابلي (٥٨٦ ـ ٥٣٩ ق. م) ، وربما في عصر النبي إرميا (٦٢٦ ـ ٥٨٠ ق. م) بالذات ، ذلك لأن النبي حزقيال (٥٩٣ ـ ٥٧٢ ق. م) إنما يذكر رجلا اسمه أيوب مثالا للبر ، مع نوح ودانيال (٢) ، وأن ذهب البعض إلى أن حزقيال لم يستق الفكرة من سفر أيوب في وضعه الحالي ، ولعل صورة من القصة النثرية كانت في ذهن النبي عن رجل خرج مبررا من أقسى تجربة ، وأمر محنة جازها إنسان (٣) ، وأما الجزء الشعري من السفر ، فيرجع إلى تاريخ متأخر ، ذلك لأن الإيمان بإله واحد ثابت فيه بوضوح ، فضلا عن محاولته الجادة تبرئة نفسه من خطيئة عبادة الشمس والقمر ، ووصفه لله القدير بأنه أعلى من في السموات ، وأعمق من الهاوية ، وأعرض من البحر ، ولم يذكر شيئا عن «البعل» وغيره من الآلهة الوثنية التي عبدتها الشعوب قبل السبي البابلي (٤) ، وأخيرا فهناك وجه رابع للنظر يذهب إلى أن سفر أيوب إنما كتب بعد السبي البابلي بسبب الصراع الواضح فيه بشأن الثواب والعقاب (٥).

وأما لغة سفر أيوب ففيها تأثيرات أرامية وعربية لا تخطئها العين (٦) ، وربما تشير إلى تاريخ متأخر لكتابة السفر (٧) ، ومن ثم ذهب البعض إلى

__________________

(١) قارن : أيوب ١٥ / ٨ ، ٢٦ / ١ ـ ١٤ ، بالإصحاح الثامن من سفر الأمثال (M.F.Unger ,op ـ cit ,P. (٥٩٤.

(٢) حزقيال ١٤ / ١٤.

(٣) حبيب سعيد : المرجع السابق ص ١٥٣.

(٤) أيوب ٣١ / ٢٦ ـ ٢٨ ، عباس العقاد : المرجع السابق ص ١٦١ ، حبيب سعيد : المرجع السابق ص ١٥٣.

(٥) قاموس الكتاب المقدس ١ / ١٤٨.

(٦) D.S.Margoliouth ,op ـ cit ,P.F ١٤٩. وكذاj.A.Montgomery ,op ـ cit ,P. ١٥ ، ٨.

(٧) قاموس الكتاب المقدس ١ / ١٤٨.

٢٢٨

أنه إنما كتب حوالي عام ٤٠٠ ق. م (١) ، وفضل آخرون القول بأنه كتب خلال القرون الثلاثة الأخيرة قبل الميلاد (٢).

وأيا ما كان الأمر ، فإننا لا نعرف سفرا من أسفار التوراة ظفر في رأي النقاد بالإعجاب الأدبي ، الذي ظفر به سفر أيوب ، فقال «توماس كارليل» عنه : «إنه واحد من أجل الأشياء التي وعتها الكتابة ، وإنه أقدم المأثورات عن تلك القضية التي لا تنتهي ، قضية الإنسان والقدر ، والأساليب الإلهية معه على هذه الأرض ، ولا أحسب أن شيئا كتب مما يضارعه في قيمته الأدبية» ، وقال «فيكتور هيجو» : إنه ربما كان أعظم آية أخرجتها بصيرة الإنسان» ، وقال «شاف» : إنه يرتفع كالهرم في تاريخ الأدب ، بلا سابقة وبغير نظير» (٣).

__________________

(١) M.F.Unger ,op ـ cit ,P. ٥٩٤.

(٢) حبيب سعيد : المرجع السابق ص ١٥٣.

(٣) عباس العقاد : المرجع السابق ص ١٦٢.

٢٢٩
٢٣٠

الفصل الثّاني

إلياس وإليسع عليهما‌السلام

(١) إلياس عليه‌السلام : ـ

جاء ذكر إلياس عليه‌السلام في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع ، في آية من سورة الأنعام وفي آيتين من سورة الصافات (١) ، أولاهما ذكر فيه لفظ «إلياس» ، وفي الثانية ذكر لفظ إلياسين قال تعالى : (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) ، قال ابن كثير : أي إلياس ، والعرب تلحق النون في أسماء كثيرة ، وتبدلها من غيرها ، كما يقال إسماعيل وإسماعين وإسرائيل وإسرائين ، وإلياس وإلياسين ، وهي لغة بني أسد (٢) ، ويقول صاحب الظلال : ونقف هنا لنلم بالناحية الفنية في الآية : (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) ، وقد روعيت الفاصلة وإيقاعها الموسيقى في إرجاع اسم إلياس بصيغة «إلياسين» على طريق القرآن في ملاحظة تناسق الإيقاع في التعبير (٣).

هذا وقد ذهب فريق من علماء السلف إلى أن إلياس هو إدريس عليه‌السلام ، قال قتادة وابن إسحاق يقال : إلياس هو ادريس ، وكذا قال عكرمة ، وروى ابن أبي حاتم بسنده عن عبد الله بن مسعود قال : إلياس هو إدريس ،

__________________

(١) سورة الأنعام : آية ٨٥ ، الصافات : آية ١٢٣ ـ ١٣٢.

(٢) ابن كثير : البداية والنهاية ١ / ٣٣٩ ، التفسير ٤ / ٣١.

(٣) في ظلال القرمان ٥ / ٢٩٩٨.

٢٣١

وكذا قال الضحاك ، على أن هناك فريقا آخر ، وهو أكثر المفسرين ، يذهب إلى أن إلياس إنما هو نبيّ من أنبياء بني إسرائيل ، وهو إلياس بن ياسين من ولد هارون أخي موسى عليه‌السلام ، وأن الله تعالى بعثه في بني إسرائيل بعد حزقيل ، عليهما‌السلام ، وكانوا قد عبدوا صنما يقال له «بعل» فدعاهم إلى الله تعالى ، ونهاهم عن عبادة ما سواه (١).

ولعنا نستطيع القول ، ولكن بحذر (٢) ، إن إلياس النبي عليه‌السلام الذي جاء ذكره في القرآن الكريم ، إنما هو «إيليا» (وهو صيغة مختصرة من إلياهو بمعنى الله يهوه) الذي جاء ذكره في العهد القديم ، معتمدين في ذلك على قصة هذا النبي الكريم ، كما جاءت في التوراة والقرآن العظيم ، فقصة التوراة تشير إلى عبادة «بعل» في إسرائيل على أيام الملك «أخاب» (٨٦٩ ـ ٨٥٠ ق. م) وزوجه «إيزابيل» الصورية ، ثم معارضة إيليا العنيفة لهذه الوثنية الصورية ودعوته إلى عبادة الله (يهوه) رب إسرائيل (٣) ، وأما في القرآن الكريم ، فقد ذكر إلياس عليه‌السلام في سورة الأنعام حيث يقول تعالى : (وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٤) ، وفي سورة الصافات ، حيث يقول تعالى : (وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ، إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ ، أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ ، اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ، فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ، وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي

__________________

(١) تفسير النسفي ٤ / ٢٧ ، تفسير ابن كثير ٤ / ٣٠ ، تفسير الطبري ٢٣ / ٩١ ـ ٩٢ ، تفسير الفخر الرازي ٢٦ / ١٦١.

(٢) الأرجح ، فيما يرى صاحب الظلال (٥ / ٢٩٩٧) أنه النبي المعروف في العهد القديم باسم إيلياء.

(٣) ملوك أول ١٦ / ٢٩ ـ ٣٣.

(٤) سورة الأنعام : آية ٨٥ ، وانظر : تفسير المنار ٧ / ٤٨٧ ـ ٤٩٠ ، تفسير الطبري ١١ / ٥٠٨ ٥١٠ ، تفسير ابن كثير ٢ / ٢٤٧ ـ ٢٤٨.

٢٣٢

الْآخِرِينَ ، سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ ، إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) (١).

هذا وقد اختلف المفسرون في قوله تعالى : (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) ، فقال بعضهم : هو اسم إلياس ، وأنه كان يسمى باسمين : إلياس وإلياسين ، مثل إبراهيم وإبراهام ، ويستشهد على ذلك أن ذلك كذلك بأن جميع ما في السورة من قوله «سلام» ، فإنه سلام على النبي الذي ذكر دون آلة ، فكذلك إلياسين إنما هو سلام على إلياس دون آلة ، أو كما ذكرنا من قبل أنه إلياس بن ياسين ، فكان إلياس آل ياسين ، على أن هناك وجها آخر للنظر يذهب إلى أن المراد «آل سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ، فقد قرأ عامة قراء المدينة «سلام على آل ياسين» بقطع آل من ياسين ، فكان بعضهم يتأول ذلك بمعنى سلام على مال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بينما ذهب فريق ثالث أن ياسين اسم القرآن ، كأنه قيل سلام الله على من آمن بكتاب الله الذي هو ياسين (٢).

هذا ويقدم العهد القديم قصة النبي الكريم في سفر الملوك الأول ، فيروي أن «أخاب بن عمري» ملك إسرائيل ، قد اقترف كل أنواع الشرور ، التي اقترفها أسلافه من قبل ، ولعل السبب في ذلك أن أخاب كان قد تزوج من «إيزابيل» بنت «إيثبعل» ملك صور ، والتي كانت ذات شخصية قوية ، ومن ثم فقد استطاعت أن تسيطر على زوجها تماما ، وقد أثار هذا الزواج

__________________

(١) سورة الصافات : آية ١٢٣ ـ ١٣٢ ، وانظر : تفسير البيضاوي ٢ / ٢٩٩ ، تفسير النسفي ٤ / ٢٧ ـ ٢٨ ، تفسير روح المعاني ٢٣ / ١٣٨ ـ ١٤٢ ، تفسير ابن كثير ٤ / ٣٠ ـ ٣٢ ، تفسير القرطبي ص ٥٥٥١ ـ ٥٥٥٤ ، تفسير الطبري ٢٣ / ٩١ ـ ٩٦ ، تفسير الفخر الرازي ٢٦ / ١٦٠ ـ ١٦٢ ، تفسير الجلالين ص ٣٩٨ ، تفسير القاسمي ١٤ / ٥٠٥٩ ـ ٥٠٦١ ، تفسير مجمع البيان ٢٣ / ٨٠ ـ ٨٢ ، (وانظر : الثعلبي : قصص الأنبياء المسمى عرائس المجالس ص ٢٢٣ ـ ٢٢٩ ، أبو الحسن علي الماوردي : أعلام النبوة ـ القاهرة ١٩٧١ ص ٥٢).

(٢) تفسير الطبري ٢٣ / ٩٥ ـ ٩٦ ، تفسير ابن كثير ٤ / ٣١ ، تفسير الفخر الرازي ٢٦ / ١٦٢.

٢٣٣

معارضة قوية في إسرائيل ، تزعمها النبي إيليا ، ذلك لأن «إيزابيل» (١) الصورية لم تأت في الواقع لإسرائيل بأفكار الحكم المطلق الغريبة عن التصور العبري التقليدي عن الملكية فحسب ، وإنما حاولت كذلك احلال آلهة الفينيقيين الوثنية شيئا فشيئا محل عبادة الله في مملكة إسرائيل ، وليس هناك من ريب في أن إيزابيل وحاشيتها الصورية كانوا يمارسون ديانتهم

__________________

(١) ليس صحيحا ما ذهبت إليه بعض المراجع العربية من أن هذه الملكة الصورية إيزابيل (أربيل كما يدعونها) ابنة ملك سبأ ، وأنها تزوجت بعد أخاب (لاجب أو آجب كما يدعونه) سبعة من ملوك إسرائيل وقتلهم بالاغتيال ، وأنها ولدت سبعين ولدا ، وكانت معمرة ، وأنها هي التي قتلت يحيى عليه‌السلام (الماوردي : أعلام النبوة ص ٥٢ ، الثعلبي : قصص الأنبياء ص ٢٢٤) ، وربما اختلط الأمر عليهم بين هذه الملكة إيزابيل الصورية ، وبين ابنتها «عثليا» التي تزوجت من «يهورام» (٨٤٩ ـ ٨٤٢ ق. م) ملك يهوذا ، وقد سيطرت على زوجها كأمها ، وأدخلت عبادة «البعل» في يهوذا ، كما جعلت القتل وسيلة من وسائل سياسة الدولة ، وهكذا نتيجة لتأثيرها القوي وغير المحدود على زوجها ، فإنه لم يحتضن عبادة «بعل» مدينة صور فحسب ، بل إنه عقد العزم كذلك على تثبيتها كديانة رسمية للبلاد ، وربما لكي يزيل المعارضة عن هدفه في سياسة عبادة الأوثان ، فقد قتل إخوته الستة ، كما قتل كثيرا من النبلاء ، وإن كان التنافس على العرش ربما لعب دوره في هذه المجزرة المروعة ، وعلى أية حال ، فلقد خلفه ولده أخزيا من عثليا ابنة إيزابيل وأخاب ، ولكنه قتل بعد عام ، فانتهزت عثليا الفرصة ، وكانت شديدة الرغبة في الحكم ، فقتلت أبناء الأسرة المالكة جميعا (إلا طفلا خبأه الكاهن الأكبر في المعبد) ثم أعلنت عبادة بعل صور كعبادة رسمية في العاصمة القدس وفي جميع أنحاء البلاد ، بل إن هناك من يذهب إلى أنها كانت تخطط لإقامة أسرة ملكية جديدة في القدس من وطنها صور ، رغم أنها صورية الأم ، إسرائيلية الأب ، غير أن حياتها انتهت فجأة ، أما بمؤامرة من الجيش أو بتمرد شعبي عام ضد عبادة البعل ، الذي سادت عبادته في دويلتي إسرائيل ويهوذا ، وإن اعتبرت عبادته في يهوذا عبادة رسمية تعتنقها الدولة نفسها ، وأما قتلها ليحيى عليه‌السلام فغير صحيح ، لأن عهودها يسبق عهد يحيى بما يقرب من ثمانية قرون ونصف القرن ، كما أن الذي قتل يحيى عليه‌السلام أنما هو هيرودوس إرضاء لهيروديا وابنتها سالومي ، كما سنرى فيما بعد (ملوك ثان ٨ / ٨ ـ ٢٢ ، ١١ / ١ ، أخبار أيام ثان ٢١ / ١ ـ ١٠ ، ٢٢ / ١٠ ، إنجيل متى ١٤ / ٣ ـ ١٢ ، مرقس ٦ / ١٦ ـ ٣٠ ، تاريخ يوسفيوس ص ٢١٤ ، محمد بيومي مهران : إسرائيل ٢ / ٩١٦ ، ٩٦٠ ـ ٦٩٤ ، وكذا ـ A.LOds ,op ـ cit ,P. ٣٨٥ ـ ٣٨٤I.Epstein ,op ـ cit ,P. ٤٧. وكذاC.Roth ,op ـ cit ,P. ٣٢. وكذا.

٢٣٤

الصورية الوثنية في معبد أنشئ في «السامرة» (١) نفسها من أجل هذا الغرض (٢).

وعلى أي حال ، فلم تكن هذه الديانات هي عبادة الدولة الرسمية ، فقد ظلت عبادة الله هي العبادة الرسمية ، وإن كان الملك نفسه ، فيما تروي التوراة ، قد عبد «البعل» وسجد له (٣) ، كما أن وجود هذه الديانة الأجنبية وعبادتها في العاصمة السامرة ، قد أثار مقاومة التقاليد القديمة الصارمة للقبائل الإسرائيلية التي كانت تعتبر خدمة «يهوه» هو هدفها النهائي (٤) ، وقد تزعم النبي «إيليا» الثورة ضد أخاب وزوجه إيزابيل اللذين جهدا لإلغاء عبادة الله ، واحلال عبادة البعل في مكانها ، فهدما مذابح رب إسرائيل وقتلا أنبياءه ، ومن ثم فقد اندفع إيليا في طول البلاد وعرضها كالإعصار مهددا متوعدا بأنه لا ظل ولا مطر في هذه السنين ، وفي السنة الثالثة يقول الرب لإيليا «اذهب وتراء لأخاب فأعطي مطرا على وجه الأرض» (٥).

ومع أن المجاعة كانت شديدة في كل مكان ، إلا أنها كانت في السامرة أشد قسوة ، وأعنف ضراوة ، ويطلب النبي إيليا من أخاب أن يدعو كل

__________________

(١) حكم عمري والد أخاب إسرائيل من «ترزة» ولكنه في عام حكمه السادس (حوالي عام ٨٧٠ ق. م) أقام عاصمة إسرائيل الجديدة في «السامرة» ، وهي سبسطية الحالية على مبعدة ستة أميال شمال غرب شكيم شرقي نابلس ، في موقع استراتيجي هام ، وقد سميت السامرة نسبة إلى شامر صاحب التل الذي أقيمت فوقه ، وإن رأى البعض أن الاسم بمعنى مركز المراقبة أو جبل المراقبة وقد قامت عدة هيئات علمية بحفريات في السامرة ، لعل أهمها ما كان في أعوام ١٩٠٨ / ١٩١٠ ، ١٩٣١ / ١٩٣٣ ، ١٩٣٥ (أنظر التفصيلات والمراجع : محمد بيومي مهران : إسرائيل ٢ / ٩٠٠ ـ ٩٠٢).

(٢) ج. كونتنو : الحضارة الفينيقية ص ٧٤ ، وانظر تفسير الطبري ٢٣ / ٩٢ ـ ٩٣.

(٣) ملوك أول ١٦ / ٣١.

(٤) M.Noth ,op ـ cit ,P.٢٤٢.

(٥) ملوك أول ١٧ / ١ ـ ١٩ / ٢١ ، إنجيل لوقا ٤ / ٢٥ ـ ٢٦ ، رسالة يعقوب ٥ / ١٧.

٢٣٥

إسرائيل إلى جبل الكرمل ، حيث يلتقي هناك سدنة البعل ، وعددهم ٤٥٠ سادنا ، وكذا سدنة السواري (١) الذين يعيشون على مائدة إيزابيل ، عددهم ٤٠٠ سادنا ، وأصدر أخاب أمره الملكي باستدعاء «جميع بني إسرائيل وجميع الأنبياء إلى الكرمل» ، وطلب منهم إيليا أن يدعو بعولهم وأصنامهم أن تنزل عليهم المطر ، فإن استجابت ، فهم على حق ، وإن لم تستجب ، فهم على باطل ، فدعوا فلم تستجب لهم ، ودعا إيليا ربه فاستجاب له ، وأرسل الله المطر فأغاثهم ، فحييت بلادهم وفرج عنهم ما كانوا فيه من البلاء ، ثم أمر إيليا القوم أن «امسكوا أنبياء البعل ، ولا يفلت منهم رجل ، فأمسكوهم فنزل بهم إيليا إلى نهر «ميشون» (نهر المقطع في وسط سهل مرج ابن عامر) وذبحهم» ، وتسمع إيزابيل بما حدث ، وفي غضب مرير تنذر قتل إيليا ، (انتقاما منه لقتله كهنة البعل ، ولكن إيليا يترك إسرائيل إلى جبل حوريب ، بعد أن يعهد إلى حواريه «اليسع» الذي يتولى الدعوة من بعده (٢).

هذا وقد اختلفت المصادر العربية في عبادة البعل (٣) ومكانها ، قال ابن

__________________

(١) انظر عن السواري وأهميتها الدينية في إسرائيل (محمد بيومي مهران : إسرائيل ٤ / ١٢٣ ـ ١٢٤).

(٢) ملوك أول ١٨ / ١ ـ ١٩ / ١٧ ، وانظر : تاريخ الطبري ١ / ٤٦٢ ـ ٤٦٤ (بيروت ١٩٨٤).

(٣) البعل : وجمعه بعليم أو بعاليم ، وهو اسم سامي بمعنى ، «سيد أو رب أو زوج» ، وقد جرى بعض الباحثين على اعتبار «بعل» إلها وثنيا معينا ، وهذا فيما يرى كونتنو ، خلط يحسن أن يزول ، فإن اللفظ يطلق على الآلهة الوثنية بوجه عام ، فيما عدا إطلاقه في نصوص رأس الشمرا على الإله الوثني الأكبر «بعل» ، فيقال ، فيما عدا ذلك ، بعل هذا الإقليم أو ذاك مثل بعل صور ، وبعل لبنان ، بمعنى سيد صور وسيد لبنان ، وبما أنه كان لأغلب المدن الفينيقية بعولة يقدسونها ، فكل بعل يوصف في الغالب باسم المكان الذي يعبد فيه ، مثل «بعل روش» (سيد الرأس) وبعل آسافون (سيد الشمال) وبعل شمين (سيد السماوات) ، وبعل لبنان (سيد لبنان) ، كما كان الاسم من أسمائه يبتدئ غالبا ببعل وينتهي باسم تلك البلاد أو المدينة الموجود فيها أو بشيء ينسب إليه ، مثل بعل فعور ، وبعل زبوب ، وبعلبك ، وكان بعل إلها وثنيا كنعانيا فينيقيا ، وهو ، في عقيدة القوم ، ابن الإله إيل ، وزوج الآلهة بعلة أو عشيرة أو عنات ـ

٢٣٦

عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة والسدي : بعلا يعني ربا ، قال عكرمة وقتادة : وهي لغة أهل اليمن ، وفي رواية عن قتادة هي لغة أزد شنوءة ، وقال عبد الرحمن بن يزيد بن أسلم عن أبيه هو اسم صنم كان يعبده أهل مدينة يقال لها بعلبك غربي دمشق ، وقال الضحاك هو اسم صنم كانوا يعبدونه ، وفي تفسير النسفي : بعل اسم صنم من الذهب كان موضعه يقال له «بك» فركب وصار «بعلبك» وهي من بلاد الشام ، وقال الرازي في التفسير الكبير : في بعل قولان ، أحدهما : أنه اسم علم لصنم كان لهم كمناة وهبل ، وقيل كان من ذهب ، وكان طوله عشرين ذراعا ، وله أربعة أوجه ، وفتنوا به وعظموه ، حتى عينوا له أربعمائة سادن وجعلوهم أنبياء ، وباسم هذا الصنم سميت مدينتهم بعلبك ، وثانيهما : أن البعل هو الرب بلغة اليمن ، يقال : من بعل هذه الدار ، أي من ربها ، وسمي الزوج بعلا لهذا المعنى ، قال تعالى : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) ، وقال تعالى : (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) فعلى هذا التقدير المعنى : أتعبدون بعض البعول وتتركون عبادة الله؟ وقال صاحب الظلال إن إلياس أرسل إلى قوم في سورية كانوا يعبدون صنما كانوا يسمونه بعلا ، وما تزال آثار مدينة بعلبك تدل على آثار هذه العبادة (١).

__________________

ـ أو عشتارت ، وكان إله المزارع ورب الخصب في الحقول والمواشي ، كما كان يتولى أمر القمم العالية والعواصف والرعد والمطر ، ويصور على هيئة محارب ذي خوذة ممسك بيده صاعقة أمور ، مما يجعل هويته نفس هوية الإله الكبير المعروف في سورية العليا ولدى الحيثيين والحوريين أيضا ، وهو على الجملة إله أسيوي ، وقد أولع أهل المشرق بعبادة البعل فكان يضحون بالذبائح البشرية على مذابحه ، ويقيمون هياكله على الأماكن المرتفعة كالجبال والتلال ، وقد صار البعل بعد ذلك عشرة للإسرائيليين الذين كسروا شريعة الله تعالى حين أدخلوا عبادته إلى بلادهم ، كما كان للبعل كهنة كثيرون يخدعون الناس بسحرهم وشعوذتهم ، كما رأينا في قصة إيليا ، كما روتها توراة اليهود (كونتنو : الحضارة الفينيقية ص ١٠٤ ، ١١٩ ـ ١٢٠ ، قاموس الكتاب المقدس ١ / ١٨١ ـ ١٨٢).

(١) تفسير الفخر الرازي ٢٦ / ١٦١ ، تفسير النسفي ٤ / ٢٨ ، تفسير ابن كثير ٤ / ٣١ ، في ظلال القرآن ٥ / ٢٩٩٧.

٢٣٧

وقال ابن إسحاق : سمعت بعض أهل العلم يقول : ما كان بعل إلا امرأة يعبدونها من دون الله ، يقول الله لمحمد : (وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) ـ إلى قوله : (اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) ، فجعل إلياس يدعوهم إلى الله ، وجعلوا لا يسمعون منه شيئا ، ألا ما كان من ذلك الملك ، والملوك متفرقة بالشام ، كل ملك له ناحية منها يأكلها ، فقال ذلك الملك الذي كان إلياس معه يقوّم له أمره ، ويراه على هدى من بين أصحابه ، يوما يا إلياس : والله ما أرى ما تدعو إليه إلا باطلا ، والله ما أرى فلانا وفلانا ، يعدّد ملوكا من ملوك بني إسرائيل قد عبدوا الأوثان من دون الله ، إلا على مثل ما نحن عليه ، يأكلون ويشربون وينعمون مملكين ، ما ينقص دنياهم أمرهم الذي تزعم أنه باطل ، وما نرى لنا عليهم من فضل ، فيزعمون والله أعلم ، أن إلياس استرجع وقام شعر رأسه وجلده ، ثم رفضه وخرج عنه ، ففعل ذلك الملك فعل أصحابه : عبد الأصنام ، وصنع ما يصنعون ، فقال إلياس : اللهم إن بني إسرائيل قد أبوا إلا أن يكفروا بك ، والعبادة لغيرك فغيّر ما بهم من نعمتك» ، قال (أي ابن إسحاق) فذكر لي أنه أوحى إليه : إنا قد جعلنا أمر أرزاقهم بيدك وإليك ، حتى تكون أنت الذي تأذن في ذلك ، فقال إلياس : اللهم فامسك عليهم المطر ، فحبس عنهم ثلاث سنين ، حتى هلكت الماشية والهوام والدواب والشجر وجهد الناس جهدا شديدا ، وفي رواية عن وهب ابن منبه : أنهم سألوه أن يكشف ذلك عنهم ووعدوه الإيمان ، أن هم أصابهم المطر ، فدعا الله تعالى لهم فجاءهم الغيث ، فاستمروا على أخبث ما كانوا عليه من الكفر فسأل الله أن يقبضه إليه ، وكان قد نشأ على يديه «اليسع بن أخطوب» عليهما‌السلام ، فأمر إلياس أن يذهب إلى مكان كذا وكذا ، فمهما جاءه فليركبه ولا يهبه ، فجاءته فرس من نار ، فركب وألبسه الله تعالى النور وكساه الريش ، وكان يطير مع الملائكة إنسيا سماويا أرضيا ، وفي تفسير النسفي : قيل في إلياس والخضر إنهما حيان ، وقيل إلياس وكل بالفيافي ،

٢٣٨

كما وكل الخضر بالبحار ، والحسن يقول : قد هلك إلياس والخضر ، ولا تقول كما يقول الناس : أنهما حيان (١).

وأما متى كان عصر إلياس عليه‌السلام ، فالثابت من نصوص العهد القديم ، وبعض المصادر العربية ، فضلا عن المؤرخين المحدثين ، أن إلياس إنما أرسل إلى بني إسرائيل على أيام الملك أخاب بن عمري ، ملك إسرائيل في الفترة (٨٦٩ ـ ٨٥٠ ق. م) (٢) ، أي أن إلياس عليه‌السلام كان يعيش في القرن التاسع قبل الميلاد ، وربما في النصف الأول من هذا القرن التاسع ق. م.

(٢) اليسع عليه‌السلام : ـ

أوجز القرآن الكريم عن حياته عليه‌السلام فلم يذكر عنها شيئا ، واكتفى بذكره بين مجموعة الأنبياء الكرام البررة الذين يجب الإيمان بهم إجمالا ، وذلك في سورتي الأنعام وص ، يقول الله تعالى : (وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ) ، ويقول تعالى : (وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ) (٣).

واليسع ، في روايات العهد القديم ، هو «اليشع بن شافاط» (٤) ، وفي

__________________

(١) تفسير الطبري ٢٣ / ٩٣ ـ ٩٤ ، تفسير ابن كثير ٤ / ٣١ ، تاريخ الطبري ١ / ٤٦٣ ـ ٤٦٤ ، تفسير النسفي ١ / ٢٨.

(٢) أنظر عن عهد أخاب (محمد بيومي مهران : إسرائيل ٢ / ٩٠٣ ـ ٩١٣).

(٣) سورة الأنعام : آية ٨٦ ، سورة ص : آية ٤٨ ، وانظر : تفسير الطبري ١١ / ٥١٠ ـ ٥١٢ ، ٢٣ / ١٧٢ ـ ١٧٣ ، تفسير الفخر الرازي ١٣ / ٦٤ ـ ٦٥ ، ٢٦ / ٢١٦ ـ ٢١٧ ، تفسير روح المعاني ٧ / ٢١٨ ـ ٢١٩ ، ٢٣ / ٢١١ ـ ٢١٢ ، تفسير ابن كثير ٢ / ٢٤٧ ـ ٢٤٨ ، ٤ / ٦٢ ، تفسير الكشاف ٢ / ٣٤ ، تفسير البيضاوي ٢ / ٣١٢ ، تفسير المنار ٧ / ٤٨٧ ـ ٤٩١ تفسير القرطبي ص ٢٤٦٧ ـ ٢٤٦٩ ، ٥٦٦٢ ـ ٥٦٦٣ ، تفسير أبي السعود ٢ / ٢٤٥.

(٤) ملوك أول ١٩ / ١٦.

٢٣٩

المصادر العربية ، هو «اليسع بن أخطوب» من سبط أفرايم ، وقيل ابن عم إلياس ، وقال ابن عساكر : اسمه أسباط بن عدي بن شوليم بن أفرايم (١) ، وفي تفسير الطبري : أن إلياس عند ما دعا على بني إسرائيل ، فحبس المطر عنهم ثلاث سنين حتى هلكت الماشية والهوام والدواب والشجر وجهد الناس جهدا شديدا ، استخفى إلياس عن الناس شفقة على نفسه منهم ، ثم إنه آوى ليلة إلى امرأة من بني إسرائيل لها ابن يقال له «اليسع بن أخطوب» ، به ضرّ ، فآوته وأخفت أمره ، فدعا إلياس لابنها فعوفي من الضرّ الذي كان به ، واتبع اليسع إلياس ، فآمن به وصدقه ولزمه ، فكان يذهب معه حيثما ذهب (٢).

ويذهب بعض المفسرين إلى أن «اليسع» معرب الإسم العبراني «يوشع» فهو اسم أعجمي دخلت عليه لام التعريف ، على خلاف القياس ، بينما ذهب آخرون إلى أنه اسم عربي منقول من «يسع» مضارع «وسع» ، وأنه من ولد إسماعيل عليه‌السلام ، ويذهب صاحب تفسير المنار إلى أنه تعريب «اليشع» ، وهو أحد «أنبياء بني إسرائيل وكان خليفة إلياس (إيليا) ومن المعهود في نقل الإسم العبري إلى العربي إبدال الشين المعجمة بالمهملة (٣) ، وهذا ما نميل إليه ونرجحه ، روى عن وهبه بن منبه أن الله قبض حزقيل وعظمت في بني إسرائيل الأحداث ، ونسوا ما كان من عهد الله إليهم ، حتى نصبوا الأوثان وعبدوها دون الله ، فبعث الله إليهم إلياس من ولدها هارون نبيا وإنما كانت الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى يبعثون إليهم بتجديد ما نسوا من التوراة ، فكان إلياس مع ملك من ملوك بني إسرائيل يقال

__________________

(١) تاريخ ابن خلدون ٢ / ١٢٩ ـ ١٣٠.

(٢) تفسير الطبري ٢٣ / ٩٣.

(٣) تفسير المنار ٧ / ٤٩٠ ـ ٤٩١ (القاهرة ١٩٧٤) ، تفسير القرطبي ص ٢٤٦٨ ـ ٢٤٦٩ (القاهرة ١٩٧٠).

٢٤٠