دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٣

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٣

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٠

الصلاة ، فطلب إليه أن يصلي بها فرفض حتى لا يتبعه المسلمون إذ يرون أن عمله سنة مستحبة ، فإذا فعلوا أخرجوا النصارى من كنيستهم وخالفوا عهد الأمان ، واعتذر للسبب نفسه عن الصلاة بكنيسة قسطنطين المجاورة لكنيسة القيامة (١) ، وإنما صلى في مكان قريب عند الصخرة المقدسة ، وخطّ المسجد الذي عرف باسمه (٢).

(٩) مباني سليمان : ـ

لا ريب في أنه كان للقدس نصيب الأسد في المباني التي شيدت في عهد سليمان عليه‌السلام وطبقا لما جاء في التوراة فقد شيد سليمان سور المدينة وقلعتها ، وإن كان بناء المسجد الأقصى وقصر سليمان إنما يمثلان أعظم إنجازات الملك النبي المعمارية ، وأما المسجد الأقصى فقد خصصنا له فصلا مستقلا من قبل ، وأما القصر فقد اختيرت له الهضبة الغربية ، وطبقا لرواية التوراة ، فلقد أقيم القصر على المنطقة الصخرية التي تدعى «تل

__________________

ـ بمنع اليهود من النزول بالمدينة ، معتذرا بأن القرآن الكريم قد حدد لأهل الكتاب ما لهم وما عليهم ، وليس فيه شيء يسمح بهذا ، ولكنه تعهد للنصارى بألا يدخل أحد من اليهود إلى مقدساتهم أو يسكن في حاراتهم (حسن ظاظا : المرجع السابق ص ٣٠).

(١) يقول المسعودي : أن سليمان عليه‌السلام بعد أن بنى المسجد الأقصى ، بنى لنفسه بيتا في الموضع الذي يسمى في وقتنا هذا (أي وقته هو) كنيسة القيامة ، وهي الكنيسة العظمى ببيت المقدس عند النصارى (مرجع الذهب ١ / ٧٠) وهي الكنيسة التي بنتها «هيلانة» أم الامبراطور قسطنطين (٣٠٦ ـ ٣٣٧ م) في عام ٣٢٦ م ، في المكان الذي يعتقد النصارى أن جثمان المسيح عليه‌السلام قد دفن فيه ، ثم رفع إلى السماء ، وهذا خطأ لأن المسيح لم يقتل ولم يصلب ، قال تعالى : (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ، وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً ، بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (سورة النساء : آية ١٥٧ ـ ١٥٨).

(٢) تاريخ الطبري ٣ / ٦٠٧ ـ ٦١٣ ، الواقدي : فتوح الشام ٢ / ٢٦ ، ٢٤٤ ، ٢٦٧ ، البلاذري : فتوح البلدان ص ١٤٤ ـ ١٤٥ ، حسن ظاظا : المرجع السابق ص ٣٠ ، عبد الحميد زائد : القدس الخالدة ص ١٧٣ ـ ١٧٥ ، البداية والنهاية ٧ / ٦٠ ـ ٦٧.

٢٠١

موريا» (١) ، ويذهب المسعودي ، كما أشرنا آنفا ، أنه في مكان كنيسة القيامة (٢) ، وكان القصر يتكون من عناصر ثلاثة : «بيت وعر لبنان» ، وكان يستخدم كترسانة أسلحة (٣) ، وربما كمكان للمالية في نفس الوقت (٤) ، ويحتمل كذلك أنه استخدم كحوش للإسطبلات ، وأما «صالة الأعمدة» فلم يعرف الغرض الذي استخدمت من أجله ، وأما «غرفة الاجتماعات الكبيرة» ، فقد استخدمت كمكان للقضاء ، فضلا عن الاحتفالات الرسمية (٥) ، هذا وقد وجد إلى جانب هذا القصر الكبير من ناحية الغرب مباشرة ، قصر آخر أحيط بجدار فاصل ، وقد اتخذ مكانا لسكني الملك وسيدات القصر ، هذا وقد وجد أيضا ، إلى الشمال مباشرة ، وفوق هضبة مرتفعة ، مبنى آخر أحيط بسور خاص ، اتخذ كمصلي ، وأمامه مذبح لحرق الأضاحي (٦).

ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الروايات التي وصلتنا عن مباني سليمان إنما تضعه في مرتبة أعلى البنائين المشهورين ، ومن ثم فقد نسبت إليه مبان كثيرة في منطقة الشرق الأدنى القديم ، حتى أن بعض تلك المباني إنما كانت تقع بعيدا جدا عن منطقة نفوذه (٧) ، وقد نافست المصادر العربية المصادر اليهودية في نسبة مبان كثيرة إلى سليمان ، حتى أن «ياقوت الحموي» يقول : «إن الناس كانوا إذا ما رأوا بناء عجيبا جهلوا بانيه ، أضافوه إلى سليمان وإلى جن سليمان (٨) ، ومع ذلك ، فالذي لا شك فيه أن

__________________

(١) أخبار أيام ثان ٣ / ١.

(٢) مروج الذهب ١ / ٧٠.

(٣) ملوك أول ١٠ / ١٦ ـ ١٧.

(٤) ملوك أول ١٠ / ١٧ ـ ٢٠.

(٥) ملوك أول ١٠ / ١٨ ـ ٢٠ ، وكذاO.Eissfeldt ,op ـ cit ,P. ٥٩٦.

(٦) Ibid.,P. ٥٩٦.

(٧) Ibid.,P. ٥٩٤.

(٨) ياقوت الحموي : معجم البلدان ٢ / ١٧ (بيروت ١٩٥٧).

٢٠٢

لسليمان إنجازات معمارية كثيرة ، وقد ذكرنا من قبل تشييده لكثير من الثكنات لفصائل عجلاته الحربية ، والتي أطلقت عليها التوراة «مدن المركبات» و «مدن الفرسان» وكذا «مدن المخازن» (١) التي أقيمت للمؤن والعلف التي تحتاجها المعسكرات والمحطات التي أقيمت على الطرق التجارية ، وذلك لأن «مدن المخازن التي بناها سليمان في حماة» (٢) إنما قد خدمت الهدفين ، وبالتالي فربما أمكن القول أن الأماكن المحصنة التي أقيمت في مجاورات مجدو وتدمر وحماة وأورشليم إنما كانت «مدن مخازن» (٣).

هذا وقد كشف عن بعض مبان لسليمان في حاصور (٤) (تل قدح على مبعدة ٥ كيلا جنوب غرب بحيرة الحولة) وفي «عصيون جابر» اكتشف «جلوك» حصنا يرجع إلى أيام سليمان ، وكذا في «قادش برينع» ، وهي خربة القضيرات أو عين قديس ، على مبعدة ٥٠ ميلا جنوب بئر سبع (٥) ، ونقرأ في التوراة أن سليمان «بنى جازر وبيت حورن السفلى وبعلة وتدمر في البرية» (٦) ، أما «جازر» فهي المدينة الكنعانية الواقعة على مبعدة ١٨ ميلا شمال غرب أورشليم ، وقد أشرنا من قبل إلى أن فرعون قد استولى عليها وقدمها مهرا لابنته امرأة سليمان ، ويبدو أن سليمان قد أعاد بناء المدينة بعد ذلك (٧) ، وأما «بيت حورن السفلي» فتقع على مبعدة ١٢ ميلا شمال

__________________

(١) ملوك أول ٩ / ١٩.

(٢) أخبار أيام ثان ٨ / ٤.

(٣) O.Eissfeldt ,Op.Cit ,P. ٥٩٥.

(٤) ملوك أول ٩ / ١٥.

(٥) قاموس الكتاب المقدس ٢ / ٧٠٨ ـ ٧٠٩ ، وكذاO.Eissfeldt ,Op.Cit ,P. ٥٩٥. ٥٩٥ وكذا W. F. Albright, Recent Discoveries in Bible Land, N. Y, F ٨٦.p ، ١٩٥٥.

(٦) ملوك أول ٩ / ١٧ ـ ١٨.

(٧) ملوك أول ٩ / ١٥ ـ ١٧ ، قاموس الكتاب المقدس ١ / ٢٤٢ وكذا.M.F.Unger ,op ـ cit ,p ٤٠١.

٢٠٣

أورشليم ، وتسمى حاليا «بيت عور السفلى» وهي أقدم من عصر سليمان ، ومن ثم فيبدو أن سليمان قد حصنها ولكنه لم يبنها (١) ، وأما «بعلة» فهي مدينة في منطقة «دان» لا يعرف الآن مكانها على وجه التحقيق ، ويرجح أن سليمان حصنها ولم يبنها كذلك (٢).

وأما مدينة «تدمر» فهي مدينة «تمر» التي قام سليمان ببنائها في البرية ، وقد أشارت التوراة ويوسف بن متى أن سليمان قد أقام مدينة تدمر (٣) ، ولا شك في أن وجهة النظر اليهودية هذه خاطئة ، ذلك لأن مدينة تدمر إنما ظهرت للمرة الأولى في التاريخ على أيام الملك الأشوري «تجلات بلاسر» (١١١٦ ـ ١٠٩٠ ق. م) في صورة «تدمر أمورو» (٤) أي قبل أن يولد النبي الكريم ، وكذا بفترة تسبق ما دون في التوراة بشأنها بأكثر من سبعة قرون ، ومن هنا يذهب العلماء إلى أن الرواية التوراتية بشأن بناء سليمان لمدينة تدمر ، إما أنها من نوع المبالغة ، ومن ثم فقد نسبت إلى سليمان بناء مدينة تقع في منطقة بعيدة عن حدود دولته إسرائيل (٥) ، وإما أن هناك خطأ وقع فيه كاتب الحوليات العبراني حين خلط بين «تامارا» (تمر) التي بناها سليمان في جنوب شرق يهوذا (٦) ، وربما كانت الشهرة التي اكتسبتها «تدمر» (٧) على أيام كتبة الأسفار العبرانيين هي السبب في نسبة بنائها إلى النبي الكريم ، ومن ثم فقد ذهب هؤلاء الكتبة إلى أن المدينة التي بناها سليمان هي «تدمر» وليست

__________________

(١) ملوك أول ٩ / ١٧ ، قاموس الكتاب المقدس ١ / ٢٠٢.

(٢) ملوك أول ١١ / ١٨ ، قاموس الكتاب المقدس ١ / ٨٢).

(٣) ملوك أول ٩ / ١٨ ، أخبار أيام ثان ٨ / ٤ ، وكذا E. Dhrome, Palmyra dans Les Textes Assyriens, RB, ١٠٦.p ، ١٩٢٤ وكذاEI ,III ,P. ١٠٢٠.

(٤) EI ,III ,p. ١٠٢٠ وكذاEB , ٤٨٨ ، ١٧ ، E.Dhrome ,op ـ cit ,P. ١٠٦ وكذاEB , ١٦١.p ، ١٧.

(٥) فيليب حتى : المرجع السابق ص ٤٣٢ ، جواد علي ٣ / ٧٧ ، وكذاJ.Hastings ,op ـ cit ,P. ٨٨٩.

(٦) حزقيال ٤٧ / ١٩ ، قاموس الكتاب المقدس ١ / ٢٨٢.

(٧) عن «تدمر» أنظر (محمد بيومي مهران : دراسات في تاريخ العرب القديم ـ الرياض ١٩٧٧ ص ٥٣٣ ـ ٥٤١.

٢٠٤

«ثامار» ، وسرعان ما انتقلت تلك الرواية إلى المصادر العربية ، عن طريق مسلمة أهل الكتاب ، فأخذوها بغير تدقيق ولا تحقيق ، فضلا عن أن آثار المدينة ربما أدهشتهم ومن ثم فقد نسبوا أبناءها إلى الجن ، بأمر من سليمان عليه‌السلام (١).

هذا وقد ناقش الأستاذ «إيسفلت» الموضوع عام ١٩٧٥ م بشيء من التفصيل ، وخلص إلى أن «تدمر» المشار إليها في التوراة إنما هي «تمر» ، وتقع في أو بالقرب من «عين الرس» ، على مبعدة ٥ كيلا إلى جنوب النهاية الجنوبية للبحر الميت ، وليست تدمر التي تقع على مبعدة ١٥٠ كيلا شمال شرق دمشق ، في منتصف المسافة بين دمشق والفرات وعلى أي حال ، فإن بناء «تمر» إنما كان جزءا من مشروع أكبر لخدمة الأغراض التجارية التي كانت دولة سليمان ميدانا لها (٢).

__________________

(١) فيليب حتى : المرجع السابق ص ٤٣٢ ، جواد علي ٣ / ٧٨ ، الألوسي : بلوغ الأرب ١ / ٢٠٩ ـ ٢١٠ ، ياقوت ٢ / ١٧ ـ ١٩ ، البكري ١ / ٣٠٦ ـ ٣٠٧ ، ثم قارن المسعودي ٢ / ٢٤٤ ـ ٢٤٥ (بيروت ١٩٧٣).

(٢) ملوك أول ٣ / ١ ، ٩ / ١٥ ، وكذاO.EB , ١٦١.p ، ١٧ وكذاO.Eissfeldt ,op ـ cit ,P. ٥٩٣ ـ ٥٩٢.

٢٠٥
٢٠٦

الكتاب الخامس

الأنبياء

من أيوب إلى يحيى عليهم‌السلام

٢٠٧
٢٠٨

الفصل الأول

أيوب عليه‌السلام

(١) قصة أيوب عليه‌السلام : ـ

وردت قصة أيوب عليه‌السلام في القرآن الكريم في سورة النساء (آية ١٦٣) والأنعام (آية ٨٤) ، وفي سورة الأنبياء وص بشيء قليل من التفصيل ، قال تعالى في الأنبياء : (وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ، فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) (١) ، وقال تعالى في سورة ص : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ ، ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ ، وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ ، وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (٢).

هذا ويشير القرآن الكريم إلى أن أيوب إنما هو من ذرية إبراهيم

__________________

(١) سورة الأنبياء : آية ٨٣ ـ ٨٤ ، وانظر : تفسير الطبري ١٧ / ٥٦ ـ ٧٣ ، تفسير ابن كثير ٣ / ٣٠٠ ـ ٣٠٤ ، تفسير الفخر الرازي ٢٢ / ٢٠٣ ـ ٢٠٩ ، تفسير النسفي ٣ / ٨٦ ـ ٨٧ ، تفسير القرطبي ص ٤٣٦٢ ـ ٤٣٦٧ ، في ظلال القرآن ٤ / ٢٣٩١ ـ ٢٣٩٢ ، تفسير روح المعاني ١٧ / ٧٩ ـ ٨٢ ، صفوة التفاسير ٢ / ٢٧٢.

(٢) سورة ص : آية ٤١ ـ ٤٤ ، وانظر : تفسير ابن كثير ٤ / ٥٩ ـ ٦١ ، تفسير النسفي ٤ / ٤٢ ـ ٤٣ ، تفسير الفخر الرازي ٢٦ / ٢١١ ـ ٢١٥ ، تفسير الطبري ٢٣ / ١٦٥ ـ ١٦٩ ، في ظلال القرآن ٥ / ٣٠٢١ ـ ٣٠٢٢ ، تفسير القرطبي ص ٥٦٥١ ـ ٥٦٥٦.

٢٠٩

الخليل عليهما‌السلام ، قال تعالى : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (١) ، ومن ثم فقد ذهب جمهور العلماء إلى أنه من سلالة العيص (عيسو) بن إسحاق بن إبراهيم عليهم‌السلام ، وأن أمه ، فيما يرى ابن عساكر ، بنت لوط عليه‌السلام ، وإن ذهب رأي إلى أنه من الروم ، قال ابن إسحاق : كان رجلا من الروم ، وهو أيوب بن موص بن زراح بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل ، ولعل خطأ وقع هنا في كلمة «الروم» ، والمقصود «أدوم» وليس «روم» ، ذلك لأن عيسو (العيص) بن إسحاق (شقيق يعقوب التوأم) ، إنما كان يسمى «أدوم» (الأحمر) ، وإليه ينسب الآدوميون الذين كانوا يسكنون في أقصى بلاد شرق الأردن ، وجنوب وادي الحسا ، وكانت عاصمتهم «البتراء» (٢) ، على أن هناك وجها ثالثا للنظر يذهب إلى أن أبا أيوب عليه‌السلام ، إنما كان ممن آمن بإبراهيم عليه‌السلام وهاجر معه إلى فلسطين ، على أن هناك رواية رابعة تنسب لابن إسحاق تذهب إلى أن أيوب كان من بني إسرائيل ، ولم يصح في نسبه شيء ، إلا أن اسم أبيه أموص ، وعلى أية حال ، فالصحيح ، فيما يرى كثير من المفسرين والمؤرخين ، أنه من سلالة العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليهما‌السلام ، وأما امرأته فهي «ليا» (دينة) بنت يعقوب عليه‌السلام ، وقيل هي «رحمة» بنت أفرايم بن يوسف أو ماضر بنت منشا (منسى) بن يوسف عليه‌السلام ، وطبقا لهذا ، فإن أيوب إنما قد عاش قبل موسى عليه‌السلام ، وقال ابن جرير : كان بعد شعيب عليه‌السلام ، وفي التاريخ أنه كان نبيّا في عهد يعقوب عليه‌السلام ، وأنه عاش ثلاثا وتسعين سنة ، وقال ابن أبي خيثمة كان بعد سليمان عليه‌السلام (٣) ، وسوف نناقش ذلك بالتفصيل فيما بعد.

__________________

(١) سورة الأنعام : آية ٨٤.

(٢) انظر : التفصيلات والمراجع (محمد بيومي مهران : إسرائيل ٢ / ٥٤٧ ـ ٥٥٢).

(٣) تفسير روح المعاني ١٧ / ٨٠ ، تفسير الفخر الرازي ٢٢ / ٢٠٣ ، تفسير النسفي ٣ / ٨٦ ، ـ

٢١٠

هذا وقد اقترن ذكر أيوب عليه‌السلام بالصبر ، لأنه كان من أشد الأنبياء صبرا ، إن لم يكن أشدهم ، فلقد ابتلى عليه‌السلام بلاء شديدا في أهله وبدنه وماله ، ولكنه كان مثال العبودية الحقة لله تعالى ، فصبر على ذلك حتى أصبح يضرب به المثل في الصبر على الأذى ، فيقال : «صبر كصبر أيوب» ، وقد روى الليث عن مجاهد ما معناه : أن الله يحتج يوم القيامة بسليمان عليه‌السلام على الأغنياء ، وبيوسف عليه‌السلام على الأرقاء ، وبأيوب عليه‌السلام على الأرقاء (١) ، وقد أثنى الله تعالى على أيوب بقوله تعالى : (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (٢).

هذا ويتحدث المفسرون عما كان يملكه أيوب عليه‌السلام من المزارع والحدائق ، وما كان له من أموال ودواب وأنعام وحرث ، يضيق بها الحصر والتعداد ، فضلا عن نعمة القوة والصحة ، إلى جانب زوجة صالحة حسنة الخلق والخلق ، ومع هذا لم تبطره هذه النعم الكثيرة ، وإنما صبر لها وأدى لها كل ما يلزم ، من شكر للمنعم جل جلاله وتقدير وعرفان لفضله ، وكان رحيما بالمساكين ، كما كان يكفل الأيتام والأرامل ، ويكرم الضيف ، ومع ذلك فقد شاءت إرادة الله ، ولا راد لمشيئته ، أن تتغير الأحوال ، فصوّح الزرع ، وجف الضرع ، ونفدت الأموال ، ونفقت الماشية ، وزال الثراء العريض ، وهاجم الفقر الشديد ، والمرض القاسي العنيد ، نبيّ الله الكريم ، ثم كانت مصيبته في موت البنين والبنات أنكى وأفدح ، روى الإمام النسفي (٣) أنه عليه‌السلام كان له سبعة بنين وسبع بنات وثلاثة آلاف بعير ، وسبعة آلاف شاة ، وخمسمائة فدان يتبعها خمسمائة عبد ، لكل عبد امرأة وولد ونخيل ،

__________________

ـ البداية والنهاية لابن كثير ١ / ٢٢٠ ـ ٢٢١ ، تاريخ الطبري ١ / ٣٢٢ ـ ٣٢٤ ، الصابوني : النبوة والأنبياء ص ٢٦٤.

(١) ابن كثير : البداية والنهاية ١ / ٢٢٥.

(٢) سورة ص : آية ٤٤.

(٣) تفسير النسفي ٣ / ٨٦ ـ ٧٨.

٢١١

فابتلاه الله تعالى بذهاب ولده وماله وبمرض في بدنه ، فما وهن لما أصيب به من البلايا ، وما ضعف ولا استكان وإنما قابل ذلك كله بالصبر الجميل والإيمان الكامل ، فكان في حالتي الرخاء والبلاء مثالا لعباد الله الصالحين في إرضاء الرحمن ، وإرغام أنف الشيطان.

هذا وقد روى الإمام الرازي في التفسير الكبير : (١) أن إبليس سأل ربه فقال : هل في عبيدك من لو سلطتني عليه يمتنع مني؟ فقال الله تعالى : نعم عبدي أيوب ، فجعل يأتيه بوساوسه وهو يرى إبليس عيانا ولا يلتفت إليه ، فقال يا رب إنه قد امتنع علي فسلّطني على ماله ، وكان يجيئه ويقول له : هلك من مالك كذا وكذا ، فيقول : الله أعطى والله أخذ ، ثم يحمد الله ، فقال : يا رب إن أيوب لا يبالي فسلطني على ولده ، فجاء وزلزل الدار فهلك أولاده بالكلية ، فجاءه وأخبره فلم يلتفت إليه ، فقال يا رب لا يبالي بماله وولده فسلطني على جسده ، فأذن فيه فنفخ في جلد أيوب ، وحدثت أسقام عظيمة وآلام شديدة ، فمكث في ذلك البلاء سنين (٢) ، ومع ذلك فقد ظل صابرا حتى ضرب في هذا المجال أروع المثل ، وغدا صبره وإيمانه حديث القرون والأجيال ، وصدق سيدنا ومولانا محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث يقول كما ثبت في الصحيح : «أشد الناس بلاء الأنبياء ، ثم الصالحون ، ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلي الرجل حسب دينه ، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه» (٣).

وقد اختلف المفسرون في مدة بلاء أيوب عليه‌السلام وشدته ، فذهبت

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ٢٦ / ٢١٢.

(٢) يعترض كثير من العلماء على هذه الرواية لأن الشيطان لا قدرة له البتة على إيقاع الناس في الأمراض والآلام ، فضلا عن أن يكون ذلك مع الأنبياء على وجه الخصوص ، وقد حكى الله تعالى عن الشيطان أنه قال : «وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي» ، فصرح بأنه لا قدرة له في حق البشر ، إلا على إلقاء الوساوس والخواطر الفاسدة (راجع : تفسير الفخر الرازي ٢٦ / ٢١٣).

(٣) البداية والنهاية ١ / ٢٢٢ ، انظر مسند الإمام أحمد ١ / ١٧٢ ، تفسير ابن كثير ٣ / ٣٠١.

٢١٢

رواية إلى أنها كانت ثماني عشرة سنة ، روى ابن شهاب عن أنس قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أيوب بقي في البلاء ثماني عشرة سنة فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا يغدوان ويروحان إليه ، فقال أحدهما للآخر ذات يوم : والله لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين ، فقال له صاحبه : وما ذاك ، فقال : منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه‌الله تعالى ولم يكشف ما به ، فلما راحا إلى أيوب لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك لأيوب عليه‌السلام ، فقال أيوب : ما أدري ما تقولان ، غير أن الله تعالى يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكر إن الله عزوجل فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكر الله إلا في حق» (١) ، وذهبت رواية أخرى عن الحسن البصري قال : مكث أيوب عليه‌السلام بعد ما ألقى على الكناسة سبع سنين وأشهر ، ولم يبق له مال ولا ولد صديق ، غير امرأته رحمة صبرت معه ، وكانت تأتيه بالطعام وتحمد الله تعالى مع أيوب ، وكان أيوب مواظبا على حمد الله تعالى والثناء عليه والصبر على ما ابتلاه ، وفي رواية ثالثة قال الضحاك ومقاتل بقي في البلاء سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات ، وقال وهب في رواية رابعة بقي في البلاء ثلاث سنين ، بل إن هناك رواية خامسة تذهب إلى أن البلاء بقي ثلاث عشرة سنة (٢).

ويذهب المفسرون إلى أن شدة البلاء وصلت إلى أن ألقى به في كناسة خارج القرية لا يقربه أحد إلا زوجته ، وقد تنكر الناس له ، حتى الذين آمنوا به ، وكانوا ثلاثة (٣) ، لما رأوا ما نزل به من البلاء رفضوه واتهموه من

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ٢٢ / ٢٠٥ ، وانظر : تفسير الطبري ٢٣ / ١٦٧ ، تفسير ابن كثير ٤ / ٦٠ ، تفسير الفخر الرازي ٢٦ / ٢١٤.

(٢) تفسير الطبري ١٧ / ٧٠ ، تفسير روح المعاني ١٧ / ٨٠ ، تفسير الفخر الرازي ٢٢ / ٢٠٦ ، تفسير ابن كثير ٣ / ٣٠١.

(٣) قال النسفي في تفسيره (٤ / ٤٣) : روى أنه كان يعوده ثلاثة من المؤمنين فارتد أحدهم فسئل عنه فقيل : ألقى الشيطان أن الله لا يبتلي الأنبياء والصالحين.

٢١٣

غير أن يتركوا دينه ، وفي تفسير الطبري عن الحسن قال : ومر رجلان وهو على تلك الحال (يعني حال البلاء) ، ولا والله ما على ظهر الأرض يومئذ أكرم على الله من أيوب ، فقال أحد الرجلين لصاحبه : لو كان لله في هذا حاجة ما بلغ به هذا ، فلم يسمع أيوب شيئا كان أشد عليه من هذه الكلمة ، وفي رواية أخرى ، قال أحدهما لصاحبه : لو كان الله علم في أيوب خيرا ما ابتلاه بما أرى ، فما جزع أيوب من شيء أصابه جزعه من كلمة الرجل ، وبلغ من شدة البلاء أيضا أن امرأته اضطرتها الحاجة ، بعد العز والجاه ، إلى أن تخدم الناس في بيوتهم ، لتطعم زوجها ، وليت المصاب اقتصر على ذلك ، فإن الناس ما لبثوا أن كفوا عن استخدامها ، لئلا ينالهم من بلاء يعقوب شيء ، أو تنقل إليهم عدوى أمراضه ، فلما لم تجد أحدا يستخدمها عمدت فباعت لبعض بنات الأشراف إحدى ضفيرتيها بطعام طيب كثير ، فأتت به أيوب ، فقال : من أين لك هذا وأنكره ، فقالت خدمت به أناسا ، فلما لم تجد في الغد أحدا باعت الضفيرة الأخرى بطعام ، فأتت به فأنكره أيضا وحلف لا يأكله حتى تخبره من أين لها هذا الطعام ، فكشفت عن رأسها خمارها ، فلما رأى رأسها محلوقا قال في دعائه : «أني مسني الضرّ وأنت أرحم الراحمين» ، وفي رواية أن أيوب عليه‌السلام كان إذا أراد أن يتحرك على فراشه تعلق بتلك الذؤابة ، فلما لم يجد الذؤابة وقعت الخواطر المؤذية في قلبه واشتد غمه (١).

وكان نبي الله أيوب عليه‌السلام ، في كل ذلك ، في غاية الصبر ، وبه يضرب المثل في ذلك ، روى أن أبي حاتم عن يزيد بن ميسرة قال : لما ابتلى الله أيوب عليه‌السلام بذهاب الأهل والمال والولد ، ولم يبق له شيء أحسن الذكر ، ثم قال : أحمدك رب الأرباب الذي أحسنت إليّ ، أعطيتني المال

__________________

١) تفسير روح المعاني ١٧ / ٨٠ تفسير الطبري ١٧ / ٧١ ، تاريخ الطبري ١ / ٣٢٤ ، تفسير الفخر الرازي ٢٢ / ٢٠٧ ، ٢٦ / ٢١٤ ، ابن كثير : البداية والنهاية ١ / ٢٢٢ ـ ٢٢٣.

٢١٤

والولد فلم يبق من قلبي شعبة إلا قد دخله ذلك ، فأخذت ذلك كله مني ، وفرغت قلبي ، فليس يحول بيني وبينك شيء ، لو يعلم عدوي إبليس بالذي صنعت حسدني ، قال فلقي إبليس من ذلك منكرا ، قال وقال أيوب عليه‌السلام : يا رب إنك أعطيتني المال والولد ، فلم يقم على بابي أحد يشكوني لظلم ظلمته ، وأنت تعلم ذلك ، وإنه كان يوطأ لي الفراش فأتركها ، وأقول لنفسي يا نفسي إنك لم تخلقي لوطء الفراش ، ما تركت ذلك إلا ابتغاء وجهك (١).

هذا وقد أشار القرآن الكريم إلى محنة أيوب ، وكيف أنه لجأ إلى الله طالبا كشف الضر عنه ، وراجيا رحمة ربه ، فاستجاب الله له فكشف عنه الضر وأبدله خيرا مما فقد منه ، يقول تعالى : (وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ، فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) (٢) ، ويقول صاحب الظلال : وقصة ابتلاء أيوب من أروع قصص الابتلاء ، والنصوص القرآنية تشير إلى مجملها دون تفصيل ، وهي في هذا الوضع تعرض دعاء أيوب ، واستجابة الله للدعاء ، لأن السياق (في سورة الأنبياء) سياق رحمة الله بأنبيائه ورعايته لهم في الابتلاء ، سواء كان الابتلاء بتكذيب قومهم لهم وإيذائهم ، كما في قصص إبراهيم ولوط ونوح ، أو بالنعمة كما في قصة داود وسليمان ، أو بالضر كما في حال أيوب (٣).

على أن المفسرين أنما يذهبون مذاهب شتى في تفسيرهم لقول أيوب «أني مسني الضر» ، فرواية تذهب إلى أن البلاء لما طال على أيوب رفضه

__________________

(١) تفسير ابن كثير ٣ / ١٠٣.

(٢) سورة الأنبياء : آية ٨٣ ـ ٨٤.

(٣) في ظلال القرآن ٤ / ٢٣٩٢.

٢١٥

القريب والبعيد ، غير زوجته ، إلا رجلان كانا يغدوان ويروحان إليه ، فجاءا يوما فلم يستطيعا أن يدنوا منه من ريحه ، فقاما من بعيد ، فقال أحدهما للآخر : لو كان الله علم من أيوب خيرا ما ابتلاه بهذا ، فجزع أيوب من قولهما جزعا لم يجزع من شيء قط ، فقال اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة قط شبعان وأنا أعلم مكان جائع فصدقني ، فصدق من في السماء وهما يسمعان ، ثم قال اللهم أن كنت تعلم أني لم يكن لي قميصان قط ، وأنا أعلم مكان عار ، فصدقني ، فصدق من في السماء وهما يسمعان ، ثم قال اللهم بعزتك ثم خر ساجدا ، فقال اللهم بعزتك لا أرفع رأسي أبدا حتى تكشف عني ، فما رفع رأسه حتى كشف عنه» (١).

وتذهب رواية أخرى إلى أن الشيطان وسوس إلى زوجته لو أن أيوب ذبح لي أو سجد أو أكل طعاما ولم يسم الله تعالى لعوفي مما هو فيه من البلاء ، وفي رواية ثالثة أنه قال : لو شئت فاسجد لي سجدة واحدة حتى أرد عليك المال والولد ، وأعافي زوجك ، فرجعت إلى أيوب فأخبرته بما قال لها ، فقال لها أيوب : أتاك عدو الله ليفتنك عن دينك ، ثم أقسم لئن عافاني الله لأجلدنك مائة جلدة ، وقال عند ذلك «مسني الضر» يعني طمع إبليس في سجودي له وسجود زوجتي ودعائه إياها وإياي إلى الكفر ، وفي رواية رابعة قال وهب : كانت امرأة أيوب عليه‌السلام تعمل للناس وتأتيه بقوته ، فلما طال عليه البلاء سئمها الناس فلم يستعملوها ، فالتمست ذات يوم شيئا من الطعام فلم تجد شيئا ، فجزت قرنا من رأسها فباعته برغيف فأتته به ، فقال لها : أين قرنك ، فأخبرته بذلك ، فحينئذ قال : «مسني الضر» ، وفي رواية خامسة قال إسماعيل السّدى لم يقل أيوب : «مسني الضر» إلا لأشياء ثلاث : أحدهما : قول الرجلين له لو كان عملك الذي كنا نرى لله تعالى لما أصابك

__________________

(١) تفسير ابن كثير ٣ / ٣٠٢ ـ ٣٠٣ ، وانظر : تفسير الفخر الرازي ٢٢ / ٢٠٦.

٢١٦

الذي أصابك ، وثانيهما : كان لامرأته ثلاث ذوائب ، فعمدت إلى احداها وقطعتها وباعتها فأعطوها بذلك خبزا ولحما فجاءت إلى أيوب عليه‌السلام فقال من أين هذا؟ فقالت كل فإنه حلال ، فلما كان من الغد لم تجد شيئا فباعت الثانية ، وكذلك فعلت في اليوم الثالث ، وقالت : كل فإنه حلال ، فقال لا آكل ما لم تخبريني فأخبرته ، فبلغ ذلك من أيوب ما الله به عليم ، وقيل إنما باعت ذوائبها لأن إبليس تمثل لقوم في صورة بشر وقال : لئن تركتم أيوب في قريتكم ، فإني أخاف أن يعدي إليكم ما به من العلة فأخرجوه إلى باب البلد ، ثم قال لهم إن امرأته تدخل بيوتكم وتعمل وتمس زوجها ، أما تخافون أن تعدي إليكم علته ، فحينئذ لم يستعملها أحد فباعت ضفيرتها ، وثالثها : حين قالت له امرأته ما قالت ، وأخيرا هناك رواية سادسة ذهبت إلى أن إبليس أتاها في هيئة عظيمة فقال لها : أنا إله الأرض فعلت بزوجك ما فعلت لأنه تركني وعبد إله السماء ، فلو سجد لي سجدة رددت عليه وعليك جميع ما أخذت منكما (١).

على أن كثيرا من العلماء يرفضون معظم هذه الروايات فهي مشوبة بالإسرائيليات التي تطغى عليها ، هذا فضلا من أن انتهاء هذا المرض الذي أصيب به أيوب إلى حد التنفير عنه غير جائز ، لأن الأمراض المنفرة غير جائزة على الأنبياء عليهم‌السلام ، وقد قرر علماء التوحيد أن الأنبياء منزهون عن الأمراض المنفرة ، فكيف يتفق هذا مع منصب النبوة ، والصحيح أن المرض الذي ألم بأيوب عليه‌السلام لم يكن مرضا منفرا ، وليس فيه شيء من هذه الأقوال العليلة وإنما هو مرض طبيعي ولكنه استمر به سنين عديدة ، وهو أجل طويل لا يصبر عليه عادة لإنسان ، ثم إن بلاءه لم يكن في جسمه فحسب ، بل شمل المال والأهل والولد (٢) ، ولهذا قال تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ٢٢ / ٢٠٦ ـ ٢٠٨ ، تفسير روح المعاني ١٧ / ٨٠.

(٢) الصابوني : النبوة والأنبياء ص ٢٦٧.

٢١٧

مَعَهُمْ) ، ومن ثم فالحد المأمول من هذه القصة ، كما يقول صاحب الظلال ، أن أيوب عليه‌السلام كان ، كما جاء في القرآن ، عبدا صالحا أوابا ، وقد ابتلاه الله فصبر صبرا جميلا ، ويبدو أن ابتلاءه كان بذهاب المال والأهل والصحة جميعا ، ولكنه ظل على صلته بربه وثقته به ورضاه بما قسم له ، وكان الشيطان يوسوس لخلصائه القلائل الذين بقوا على وفائهم له ، ومنهم زوجته ، بأن الله لو كان يحب أيوب ما ابتلاه ، وكانوا يحدثونه بهذا فيؤذونه في نفسه أشد مما يؤذيه الضر والبلاء ، فلما حدثته امرأته ببعض هذه الوسوسة حلف لئن شفاه الله لئن يضربنها عدد أعينه ، قيل مائة (١).

وعلى أية حال ، فلقد استجاب الله تعالى لدعاء عبده أيوب ، فرفع عنه الضر في بدنه ، فإذا هو معافى صحيح ، ورفع عنه الضر في أهله فعوضه عمن فقد منهم ، ورزقه مثلهم ، وقيل هم أبناؤه فوهب الله له مثليهم أو أنه وهب له أبناء وأحفادا (٢) ، يقول تعالى : (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ ، وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (٣) ، فأما قوله تعالى : (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ) ، أي اضرب الأرض ، وهي أرض الجابية فيما يروي عن قتادة ، برجلك ، فامتثل ما أمر به فأنبع الله له عينا باردة الماء ، وأمر أن يغتسل فيها ويشرب منها ، فأذهب الله عنه ما كان يجده من الألم والأذى والسقم والمرض الذي كان في جسده ظاهرا وباطنا ، وأبدله الله بعد ذلك كله صحة ظاهرة وباطنة وجمالا تاما (٤).

وقال بعض المفسرين نبعث له عينان فاغتسل من إحداهما وشرب

__________________

(١) في ظلال القرآن ٥ / ٣٠٢١.

(٢) في ظلال القرآن ٤ / ٢٣٩٢.

(٣) سورة ص : آية ٤٢ ـ ٤٤.

(٤) البداية والنهاية ١ / ٢٢٤.

٢١٨

الأخرى ، فذهب الداء من ظاهره ومن باطنه بإذن الله ، وقيل ضرب برجله اليمنى فنبعت عين حارة فاغتسل منها ، ثم اليسرى فنبعت عين باردة فشرب منها ، فذهب الداء من ظاهرة وباطنة بإذن الله تعالى ، وكساه الله حله ، ثم خرج فجلس على مكان مشرف ، وأقبلت امرأته تلتمسه في مضجعه فلم تجده ، فقامت كالوالهة متلددة ، ثم قالت : يا عبد الله ، هل لك علم بالرجل المبتلي الذي كان هاهنا ، قال : لا ، ثم تبسم ، فعرفته بضحكه ، فاعتنقته ، وفي الحديث الذي رواه ابن شهاب عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وكان يخرج إلى حاجته ، فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ ، فلما كان ذات يوم أبطأ عليها ، وأوحى إلى أيوب في مكانه «أن اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب» ، فاستبطأته ، فتلقته تنظر ، فأقبل عليها قد أذهب الله ما به من البلاء ، وهو على أحسن ما كان ، فلما رأته قالت : أي بارك الله فيك ، هل رأيت نبيّ الله هذا المبتلي ، فو الله على ذلك ما رأيت أحدا أشبه به منك إذ كان صحيحا؟ قال : «فإني أنا هو» (١).

هذا ويذهب بعض المفسرين إلى أن الله تعالى ، بعد أن أذهب عن أيوب كل آلامه ، وعاد إليه شبابه وجماله ، كأحسن مما كان وأفضل ، جعل يتلفت ولا يرى شيئا مما كان له من أهل ومال ، إلا وقد أضعفه الله له ، حتى أن الماء الذي اغتسل به ، تطاير على صدره جرادا من ذهب ، قال : فجعل يضمه بيده ، أخرج الإمام أحمد بسنده عن أبي هريرة قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بينما أيوب يغتسل عريانا خرّ عليه جراد من ذهب ، فجعل أيوب عليه الصلاة والسلام يحثو في ثوبه ، فناداه ربه عزوجل ، يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى ، قال عليه الصلاة والسلام : بلى يا رب ، ولكن لا غنى بي عن

__________________

(١) تفسير الطبري ١٧ / ٦٨ ـ ٧٢ ، ٢٣ / ١٦٦ ـ ١٦٧ ، تفسير ابن كثير ٤ / ٦٠ ، تفسير الفخر الرازي ٢٦ / ٢١٤ ـ ٢١٥ ، تفسير روح المعاني ١٧ / ٨١ ، تفسير النسفي ٤ / ٤٣.

٢١٩

بركتك» (١) ، انفرد بإخراجه البخاري من حديث عبد الرازق به (٢) ، وعن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لما عافى الله أيوب أمطر عليه جرادا من ذهب ، فجعل يأخذ منه بيده ويجعله في ثوبه ، قال فقيل له : يا أيوب أما تشبع ، قال يا رب : «ومن يشبع من رحمتك» (٣).

هذا وقد اختلف أهل التأويل في أهل أيوب الذين قال الله تعالى فيهم في سورة الأنبياء : (وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) ، وفي سورة ص : (وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا) ، أهم أهله الذين أوتيهم في الدنيا ، أم ذلك وعد وعده الله أيوب أن يفعل به في الآخرة؟ فقال بعضهم : إنما أتى الله أيوب في الدنيا مثل أهله الذين هلكوا ، فإنهم لم يردوا عليه في الدنيا ، وإنما وعد الله أيوب أن يؤتيه إياهم في الآخرة (٤) ، أخرج ابن مردوية وابن عساكر من طريق جويبر الضحاك عن ابن عباس ، رضي الله تعالى عنهما ، قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله تعالى : (وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) الآية ، قال : رد الله تعالى امرأته وزاد في شبابها حتى ولدت له ستا وعشرين ذكرا» ، فالمعنى على هذا آتيناه في الدنيا مثل أهله عددا ، مع زيادة مثل آخر (٥) ، أو أنهم أبناؤه فوهب الله له مثيلهم ، أو أنه وهب له أبناء وأحفادا (٦) ، وروى ابن جرير بسنده عن الليث قال : أرسل مجاهد رجلا يقال له قاسم إلى عكرمة يسأله عن قول الله لأيوب : (وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) فقال : قيل له : أن أهلك لك في الآخرة ، فإن شئت

__________________

(١) مسند الإمام أحمد ٢ / ٣١٤.

(٢) صحيح البخاري ١ / ٧٨ ، تفسير ابن كثير ٤ / ٦١ ، تفسير روح المعاني ١٧ / ٨١.

(٣) تفسير ابن كثير ٣ / ٣٠٣.

(٤) تفسير الطبري ١٧ / ٧٢.

(٥) تفسير روح المعاني ١٧ / ٨١.

(٦) في ظلال القرآن ٤ / ٢٣٩٢.

٢٢٠