دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٣

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ٣

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٠

على ظهور الولد من غير ذكر (١).

وعلى أية حال ، فبينما كانت البتول الطاهرة تستند إلى جذع النخلة إبان الوضع : (قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) (٢) ، مع أنها كانت تعلم أن الله تعالى بعث جبريل إليها ، وخلق ولدها من نفخ جبريل عليه‌السلام ، ووعدها بأن يجعلها وابنها آية للعالمين (٣) ، وإنما قالت ذلك استحياء من الناس وخوفا من لائمتهم ، أو حذرا من وقوع الناس في المعصية بما يتكلمون فيها ، قال ابن كثير : في الآية دليل على جواز تمني الموت عند الفتنة ، فإنها عرفت أنها ستبتلى وتمتحن بهذا المولود الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد ، ولا يصدقونها في خبرها ، وبعد ما كانت عندهم عابدة ناسكة تصبح عندهم فيما يظنون عاهرة زانية ، ومن ثم قالت وهي تطلق من الحبل استحياء من الناس ، فيما يروي عن ابن عباس والسدى ، يا ليتني مت قبل هذا الكرب الذي أنا فيه ، والحزن بولادتي المولود من غير بعل ، وهكذا تمنت الموت ، وتمني الموت لنحو ذلك مما لا كراهة فيه ، نعم يكره تمنيه لضرر نزل بالإنسان من مرض أو فاقة أو محنة من عدو أو نحو ذلك من مشاق الدنيا ، ففي صحيح مسلم وغيره ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا يتمنين أحدكم الموت لضرر نزل ، فإن كان لا بد متمنيا فليقل : اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي ، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي» ، ومن ظن أن تمنيها ذلك كان لشدة الوجع ، فقد أساء الظن ، والعياذ بالله (٤).

وفي حدة الألم وغمرة الهول ، تقع المفاجأة الكبرى (فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ، وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ٢١ / ٢٠٣.

(٢) سورة مريم : آية ٢٣.

(٣) تفسير الفخر الرازي ٢١ / ٢٠٣.

(٤) تفسير ابن كثير ٣ / ١٨٩ ، تفسير روح المعاني ١٦ / ٨١ ـ ٨٢.

٣٠١

عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا ، فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً ، فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) (١) ، وقد اختلف في المنادى على قولين ، الأول أنه عيسى عليه‌السلام ، وهو قول الحسن البصري وسعيد بن جبير ، واستظهر أبو حيان كون المنادى عيسى ، والضمير لمريم ، والفاء فصيحة ، أي فولدت غلاما فأنطقه الله تعالى حين الولادة ، فنادها المولود من تحتها ، وروى ذلك أيضا عن مجاهد ووهب وابن جرير وابن زيد ، والثاني أنه جبريل ، ونقل في البحر عن الحسن أنه قال : ناداها جبريل وكان في بقعة من الأرض أخفض من البقعة التي كانت عليها ، ولعله إنما كان موقفه هناك إجلالا لها ، وتحاشيا من حضوره بين يديها في تلك الحال ، والقول بأنه عليه‌السلام كان تحتها يقبل الولد مما لا ينبغي أن يقال لما فيه من نسبة ما لا يليق بشأن أمين وحي الملك المتعال ، ويعضد الفخر الرازي القول الأول بأدلة منها : الأول أن قوله : (فَناداها مِنْ تَحْتِها) بفتح الميم ، إنما يستعمل إذا كان قد علم قبل ذلك أن تحتها أحدا ، والذي علم كونه حاصلا تحتها هو عيسي عليه‌السلام فوجب حمل اللفظ عليه ، وأما القراءة بكسر الميم فهي لا تقتضي كون المنادى جبريل عليه‌السلام ، والثاني : أن ذلك الموضع موضع اللوث والنظر إلى العورة ، وذلك لا يليق بالملائكة ، والثالث : أن قوله فناداها فعل ، ولا بد أن يكون فاعله قد تقدم ذكره ، ولقد تقدم قبل هذه الآية ذكر جبريل وعيسى عليهما‌السلام ، إلا أن ذكر عيسى أقرب لقوله تعالى : (فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ) والضمير هنا عائد إلى المسيح فحمله عليه أولى ، والرابع : هو دليل الإمام الحسن بن علي عليه‌السلام ، أن عيسى لو لم يكن كلمها لما علمت أنه ينطق ، فما كانت تشير إلى عيسى عليه‌السلام بالكلام ، فأما من قال إن المنادى هو عيسى عليه‌السلام ، فالمعنى أنه تعالى أنطقه لها حين وضعته تطيبا لقلبها وإزالة للوحشة عنها ، حتى تشاهد في أول الأمر ما

__________________

(١) سورة مريم : آية ٢٤ ـ ٢٦.

٣٠٢

بشرها به جبريل عليه‌السلام من علو شأن ذلك الولد ، ومن قال إن المنادى جبريل قال إنه أرسل إليها ليناديها بهذه الكلمات كما أرسل إليها في أول الأمر ليكون ذلك تذكيرا لها بما تقدم من أصناف البشارات ، وأولى القولين عند جمهرة المفسرين أن المنادى هو عيسى عليه‌السلام (١).

وأما السرى ، فقد اتفق المفسرون ، إلا الحسن البصري وعبد الرحمن بن زيد ، أنه النهر والجدول ، سمي لأن الماء يسرى فيه ، قال ذلك البراء بن عازب وابن عباس وعمرو بن ميمون وقتادة وإبراهيم النخعي وابن منبه ، واختاره الطبري ، وروى عن ابن عباس أنه جدول من الأردن أجراه الله تعالى منه لما أصابها العطش ، وروى أن جبريل عليه‌السلام ضرب برجله الأرض فظهرت عين ماء عذب فجرى جدولا ، وقيل فعل ذلك عيسى عليه‌السلام ، وهو المروي عن أبي جعفر الباقر ، رضي الله تعالى عنه ، وقيل كان ذلك موجودا من قبل ، إلا أن الله تعالى نبهها عليه ، والأرجح ، عند صاحب الظلال ، أنه جرى للحظته من ينبوع أو تدفق من مسيل ماء في الجبل ، وعن الحسن وابن زيد والجبائي أن المراد بالسرى عيسى عليه‌السلام ، وهو من السرو بمعنى الرفعة ، كما قال الراغب ، أي جعل ربك تحتك غلاما رفيع الشأن سامي القدر ، وروى أن الحسن البصري رجع عنه ، فقد تلا هذه الآية ، وبجنبه حميد بن عبد الرحمن الحميري : (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) ، فقال إن كان لسريا ، وإن كان لكريما ، فقال له حميد : يا أبا سعيد إنما هو الجدول ، فقال له الحسن : من ثم تعجبنا مجالستك ، وروى أن خالد بن صفوان قال له : إن العرب تسمي الجدول سريا ، فقال له الحسن : صدقت ورجع إلى قوله ، واحتج من قال إنه النهر بوجهين ، أحدهما : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن السري ، فقال هو الجدول ، وثانيهما : أن قوله تعالى :

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ٢١ / ٢٠٤ ، تفسير روح المعاني ١٦ / ٨٢ ، تفسير الطبري ١٦ / ٦٨ ـ ٦٩ ، تفسير ابن كثير ٣ / ١٩٠ ، تفسير النسفي ٣ / ٣٢ ، الكامل لابن الأثير ١ / ١٧٧.

٣٠٣

(فَكُلِي وَاشْرَبِي) يدل على أنه نهر حتى ينضاف الماء إلى الرطب ، فتأكل وتشرب (١).

وعلى أي حال ، فإن الله تعالى أمرها أن تهز النخلة فتساقط عليها رطبا جنيا فتأكل منه ، قال المفسرون : أمرها بهز الجذع اليابس لترى آية أخرى في إحياء موات الجذع ، بعد رؤيتها عين الماء العذب الذي جرى جدولا ، وذلك ليسكن ألمها وتعلم أن ذلك كرامة من الله ، (فَكُلِي وَاشْرَبِي) أي كلي من هذا الرطب الشهي ، واشربي من هذا الماء العذب السلسبيل (٢) ، وهكذا أعطاها الله تعالى طعاما وشرابا ، والطعام الحلو مناسب للنفساء ، والرطب والتمر من أجود طعام النفساء ، ونحسبها قد دهشت طويلا ، قبل أن تمديدها إلى جذع النخلة تهزه ليساقط عليها رطبا جنيا ، ثم أفاقت فاطمأنت إلى أن الله لا يتركها ، وإلى أن حجتها معها ، هذا الطفل الذي ينطق في المهد ، فيكشف عن الخارقة التي جاءت به إليها (٣).

وأتت الطاهرة البتول بوليدها المبارك تحمله : (قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا ، يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) (٤) ، وهكذا بدأت ألسنة القوم بالتقريع والتأنيب ، ثم سرعان ما تحولت إلى تهكم مرير ، قائلين : يا شبيهة هارون في الصلاح والعبادة ، ما كان أبوك رجلا فاجرا ، وما كانت أمك زانية ، فكيف صدر هذا منك ، وأنت من بيت طاهر معروف بالصلاح والعبادة ، قال قتادة : كان هارون رجلا صالحا في بني إسرائيل مشهورا بالصلاح فشبهوها به ، وليس بهارون أخي موسى ،

__________________

(١) تفسير روح المعاني ١٦ / ٨٣ ، تفسير ابن كثير ٣ / ١٩٠ ، تفسير الفخر الرازي ٢١ / ٢٠٥ ، تفسير الطبري ١٦ / ٦٩ ـ ٧١ ، تفسير النسفي ٣ / ٣٢ ، في ظلال القرآن ٤ / ٢٣٠٧.

(٢) صفوة التفاسير ٢ / ٢١٤ ـ ٢١٥.

(٣) في ظلال القرآن ٤ / ٢٣٠٧.

(٤) سورة مريم : آية ٢٧ ـ ٢٨.

٣٠٤

عليهما‌السلام ، لأن بينهما ما يزيد على ألف عام ، وقال السهيلي : هارون رجل من عباد بني إسرائيل المجتهدين كانت مريم تشبه به في اجتهادها ، وليس بهارون بن عمران النبي ، فإن بينهما دهرا طويلا ، ومن ثم فقد أخطأ كثيرا جدا من قال أنها أخت هارون النبي لأبيه وأمه ، كما أنها أخت موسى عليه‌السلام ، التي قصت أثره ، وقد ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أنا أولى الناس بابن مريم لأنه ليس بيني وبينه نبي» ، وأخرج الإمام أحمد بسنده عن المغيرة بن شعبة قال : بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى نجران فقالوا : أرأيت ما تقرءون «يا أخت هارون» وموسى قبل عيسى بكذا وكذا ، قال فرجعت فذكرت ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم» (١) ، وعن محمد بن سيرين قال : نبئت أن كعبا قال : إن قوله : «يا أخت هارون» ، ليس بهارون أخي موسى ، قال ، فقالت له عائشة : كذبت ، قال يا أم المؤمنين : إن كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاله فهو أعلم وأخبر ، وإلا فإني أجد بينهما ست مائة سنة ، قال : «فسكتت» قال ابن كثير : وفي هذا التاريخ نظر (٢) ، وهذا صحيح لأن ما بين موسى وعيسى عليهما‌السلام قرابة اثنين وعشرين قرنا.

واشتد القوم على الطاهرة البتول : (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) (٣) ، قال السّدى : لما أشارت غضبوا وقالوا : لسخريتها بنا حتى تأمرنا أن نكلم هذا الصبي أشد علينا من زناها ، (قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) ، أي من هو موجود في مهده في حالة صباه وصغره ، كيف يتكلم؟ قال الرازي في التفسير الكبير : روى أنه كان يرضع فلما سمع

__________________

(١) تفسير روح المعاني ١٦ / ٨٨ ، تفسير ابن كثير ٣ / ١٩٣ ، تفسير الطبري ١٦ / ٧٧ ـ ٧٨ ، مسند الإمام أحمد ٤ / ٢٥٢ ، صحيح مسلم ٦ / ١٧١ ، تحفة الأحوذي ٥ / ٦٠١.

(٢) تفسير الطبري ١٦ / ٧٧ ، تفسير ابن كثير ٣ / ١٩٣.

(٣) سورة مريم : آية ٢٩.

٣٠٥

ذلك ترك الرضاع وأقبل عليهم بوجهه واتكأ على يساره وأشار بسبابته ، وقيل كلمهم بذلك ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغا يتكلم فيه الصبيان ، وقيل إن زكريا عليه‌السلام أتاها عند مناظرة اليهود إياها ، فقال لعيسى عليه‌السلام : انطق بحجتك إن كنت أمرت بها ، فقال عيسى عند ذلك» (١) ، (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ، وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا ، وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) (٢).

وهكذا يعلن عيسى عليه‌السلام عبوديته لله ، فليس هو ابنه كما تدعى فرقة ، وليس هو إليها كما تدعي فرقة ، وليس هو ثالث ثلاثة ، هم إله واحد ، وهم ثلاثة ، كما تدعي فرقة ، ويعلن أن الله جعله نبيا ، لا ولدا ولا شريكا ، وبارك فيه ، وأوصاه بالصلاة والزكاة مدة حياته ، والبر بوالدته والتواضع مع عشيرته ، فله إذن حياة محدودة ذات أمد ، وهو يموت ويبعث ، وقد قدّر الله له السلام والأمان والطمأنينة يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا ، والنص صريح هنا في موت عيسى وبعثه ، وهو لا يحتمل تأويلا في هذه الحقيقة ولا جدالا (٣).

__________________

(١) تفسير ابن كثير ٣ / ١٩٣ ، تفسير الفخر الرازي ٢١ / ٢٠٨ ، تفسير روح المعاني ١٦ / ٨٩.

(٢) سورة مريم : آية ٣٠ ـ ٣٣.

(٣) في ظلال القرآن ٤ / ٢٣٠٨.

٣٠٦

الفصل الثّالث

نبوّة المسيح ومعجزاته

(١) نبوة المسيح : ـ

لم يذكر القرآن الكريم متى بدأت نبوة المسيح عليه‌السلام ، ولا كيف كان ذلك ، ولكن عبارات الإنجيل اتفقت على أن نبوته كانت على رأس ثلاثين من عمره ، وعلى ذلك جرى المؤرخون وكثير من المفسرين ، يقول الألوسي في تفسير روح المعاني : واختلف في زمن رسالته عليه‌السلام ، فقيل في الصبا وهو ابن ثلاث سنين ، وفي البحر : أن الوحي أتاه بعد البلوغ وهو ابن ثلاثين سنة ، فكانت نبوته ثلاث سنين ، قيل وثلاثة أشهر وثلاثة أيام ، ثم رفع إلى السماء ، وهو القول المشهور (١) ، وفي تفسير الطبري عن وهب بن منبه : لما صار عيسى ابن اثنتي عشرة سنة أوحى الله إلى أمه ، وهي بأرض مصر ، وكانت هربت من قومها حين ولدته إلى أرض مصر ، أن اطلعى به إلى الشام ، ففعلت الذي أمرت به ، فلم تزل بالشام حتى كان ابن ثلاثين سنة ، وكانت نبوته بثلاث سنين ، ثم رفعه الله إليه (٢) ، ويقول ابن الأثير في الكامل : أتت المسيح النبوة والرسالة وعمره ثلاثون سنة ، وظل رسولا سنتين ، إذ رفع إلى السماء ، وهو ابن اثنتين وثلاثين سنة وأياما ، ويقول

__________________

(١) تفسير روح المعاني ٣ / ١٦٧.

(٢) تفسير الطبري ٣ / ٢٧٨.

٣٠٧

علماء التوحيد إن النبوة تكون على رأس الأربعين من العمر ، أما عيسى عليه‌السلام فقد نبىء على رأس الثلاثين ، وهذه خصوصية له عليه‌السلام ، لأنه قد رفع إلى السماء قبل أن يبلغ سن الأربعين (١) ، ويذهب الدكتور الطيب النجار إلى أنه لا بأس من ذلك ، أي أن نبوة المسيح كانت على رأس الثلاثين ، فإن سن الأربعين ليست شرطا لتحديد بدء نبوة الأنبياء ، فلقد أوتي يحيى عليه‌السلام العلم والحكمة وهو صبي وبدأت نبوته قبل أن يبلغ الثلاثين (٢).

على أن الدكتور الشريف إنما يحدد ابتداء نبوة المسيح من منطوق الآيات (٢٩ ـ ٣٣ من سورة مريم) يقول تعالى : (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ، قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ، وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا ، وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا ، وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) (٣) ، وظاهر الآيات الكريمة إنما يفيد أن المسيح نبئ وهو في المهد ، ولا غرابة في ذلك ، فالقرآن يقول في شأن يحيى بن زكريا عليهما‌السلام : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) ، هذا فضلا عن اعتراف المسيح في الآية (٣٠ مريم) وهو ما يزال في المهد ، بأن الله جعله نبيا وآتاه الكتاب ، والتعبير بصيغة الماضي في (آتاني وجعلني) ، كل ذلك يرجح أنه بعث في المهد وهو صبي صغير ، ولا حاجة بنا بعدئذ لأن نجاري البعض الذين قالوا إن المسيح نبئ على رأس الثلاثين ، ولا برهان لهم على هذا ، إلا من تكلف من

__________________

(١) محمد علي الصابوني : المرجع السابق ، ص ١٩٨ ، محمد بن الشريف : الأديان في القرآن ، جده ١٩٧٩ ، ص ١٥٧ ، ابن الأثير ١ / ١٧٩.

(٢) محمد الطيب النجار : المرجع السابق ، ص ٢٧٨.

(٣) سورة مريم : آية ٢٩ ـ ٣٣ ، وانظر تفسير الطبري ١٦ / ٧٨ ـ ٨٢ ، تفسير ابن كثير ٣ / ١٩١ ـ ١٩٤ ، تفسير الفخر الرازي ٢١ / ٢٠٧ ـ ٢١٦ ، تفسير روح المعاني ١٦ / ٨٨ ـ ٩١) تفسير النسفي ٣ / ٣٤ ـ ٣٥. في ظلال القرآن ٤ / ٢٣٠٨ ، تفسير القرطبي ص ٤١٤٠ ـ ٤١٤٤.

٣٠٨

تمحلات لغوية ، ولا أن نقول كما قال بعض علماء التوحيد إن الرسالة لا تكون إلا بعد الأربعين ، ولا غرو فنحن أمام شخصية جعلها الإعداد الإلهي ، والإعجاز الإلهي لا تسير على سنن العادة ، فعيسى مخلوق غير عادي في مولده وفي مبعثه وفي مماته (١) ، عليه صلوات الله وسلامه.

وجاء في تفسير النسفي : روى عن الحسن أنه كان في المهد نبيّا وكلامه معجزته ، وقيل إن معناه أن ذلك سبق في قضائه أو جعل الآتي لا محالة كأنه وجد (٢) ، ويقول الفخر الرازي : إن قوله : (وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) يدل على أن ذلك قد حصل من قبل ، إما ملاصقا لذلك الكلام أو متقدما عليه بأزمان ، والظاهر أنه من قبل أن كلمهم آتاه الله الكتاب وجعله نبيّا ، بالصلاة والزكاة وأن يدعو إلي الله تعالى وإلى دينه وإلى ما خص به من الشريعة ، فقيل هذا الوحي نزل عليه وهو في بطن أمه ، وقيل لما انفصل من الأم آتاه الله الكتاب والنبوة ، وأنه تكلم مع أمه وأخبرها بحاله وأخبرها بأنه يكلمهم بما يدل على براءة حالها ، فلهذا أشارت إليه بالكلام ، ثم يرد الإمام الرازي على من قال إنه نبي ، ولكنه ما كان رسولا ، لأنه في ذلك الوقت ما جاء بالشريعة ، ومعنى كونه نبيّا أنه رفيع القدر على الدرجة ، فيقول إن هذا ضعيف ، لأن النبي في عرف الشرع هو الذي خصّه الله بالنبوة وبالرسالة ، خصوصا إذا قرن إليه ذكر الشرع ، وهو قوله وأوصاني بالصلاة والزكاة (٣).

وأما دليل نبوة المسيح في القرآن الكريم ، فقوله تعالى : (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ ، وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) (٤) وقوله

__________________

(١) محمود بن الشريف : الأديان في القرآن ص ١٥٧ ـ ١٥٨.

(٢) تفسير النسفي ٣ / ٣٤.

(٣) تفسير الفخر الرازي ٢١ / ٢١٤.

(٤) سورة آل عمران : آية ٤٨ ـ ٤٩ ، وانظر : تفسير الطبري ٣ / ٢٧٣ ـ ٢٧٥ ، تفسير الفخر الرازي ٨ / ٥٣ ـ ٥٤ ، تفسير النسفي ١ / ١٥٨ ، تفسير ابن كثير ١ / ٥٤٥ ـ ٥٤٦ ، تفسير روح المعاني

٣٠٩

تعالى : (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ ، وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) (١).

هذا ومن المعروف أن دعوة المسيح عليه‌السلام ، شأنها في ذلك شأن دعوات كل الرسل الكرام قبل بعثة سيدنا محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إنما هي دعوة خاصة إلى بني إسرائيل ، كما جاء في القرآن الكريم (٢) ، وكما يقول الإنجيل على لسان المسيح «لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة» (٣) ، ومن ثم فقد اتجه السيد المسيح عليه‌السلام بدعوته إلى بني إسرائيل يبغي من ورائها هداية خراف بيت إسرائيل الضالة ، وأما الذي عمم الدعوة فهم تلاميذ المسيح ، أو بالأحرى ، فقد عممها «بولس» الذي زعم أن المسيح تراءى له ، وجعله تلميذا له ، مع أنه لم يره ، وذلك بعد تكرارها على بني إسرائيل ، ولجاجتهم في الإعراض عنها ، ومن ثم فقد وجهت إلى كل مستمع لها ، مقبل عليها ، وقال لهم : إن العاملين بالخير هم ذرية إبراهيم الخليل ، أقرب وأوفي ممن يدعون النسبة إليه بالسلالة ، لأنهم أبناؤه بالروح (٤) ، ومع ذلك تبقى دعوة المسيح في صميمها ، دعوة خاصة ، وأما الدعوة العامة فهي دعوة سيدنا ومولانا محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي أرسل إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا ، وصدق الله العظيم حيث يقول : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً

__________________

ـ ٣ / ١٦٦ ـ ١٦٧ ، تفسير الظلال ١ / ٣٩٩ ـ ٤٠٠ ، تفسير المنار ٣ / ٢٤٩ ـ ٢٥٦ ، تفسير القرطبي ص ١٣٣٥ ـ ١٣٣٧.

(١) سورة الصف : آية ٦.

(٢) سورة آل عمران : آية ٤٨ ـ ٤٩ ، الصف : آية ٦.

(٣) متى ١٥ / ٢٤.

(٤) متى ١٥ / ٢٣ ـ ٢٨ ، عباس العقاد : مطلع النور ص ٩٦ ، محمد بيومي مهران : الديانة العربية القديمة ص ٦١ ـ ٦٢.

٣١٠

وَنَذِيراً) (١) ، ويقول : (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (٢) ، ويقول : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) (٣) هذا فضلا عن أن المسيح عيسى بن مريم إنما هو واحد من أولى العزم الخمسة ، خيار ولد آدم قاطبة ، وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وقد ذكروا في القرآن الكريم تخصيصا من بين الأنبياء جميعا في آيتين ، الأولى قال تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) (٤) ، والثانية : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (٥).

(٢) معجزات المسيح : ـ

لا ريب في أن مولد المسيح معجزة ، وحياته معجزة ، ووفاته معجزة ، فعيسى عليه‌السلام ، كما قلنا ، غير عادي في مولده وفي مبعثه وفي مماته ، فأما مولده ، فلقد شاء الله ، بعد نشأة آدم نشأة ذاتية مباشرة ، أن يجعل لإعادة النشأة الإنسانية طريقا معينا ، طريق التقاء ذكر وأنثى ، واجتماع بويضة وخلية تذكير ، فيتم الإخصاب ، ويتم الإنسال ، والبويضة حية غير ميتة ، والخلية حية كذلك متحركة ، ومضى مألوف الناس على هذه القاعدة ، حتى

__________________

(١) سورة سبأ : آية ٢٨.

(٢) سورة النساء : آية ٧٩.

(٣) سورة الأعراف : آية ١٥٨ وانظر : سورة إبراهيم : آية ١ ، ٥٢ ، الحج : آية ٤٩ ، الفرقان آية ١ ، الأحزاب : آية ٤٠ ، ص ؛ آية ٨٧.

(٤) سورة الأحزاب : آية ٧.

(٥) سورة الشورى : آية ١٣ ، وانظر تفسير الطبري ٢٥ / ١٤ ـ ١٦ ، تفسير القرطبي ١٦ / ٩ ـ ١٢ (الغالب ١٩٦٧) ، تفسير البيضاوي ٢ / ٣٥٤ ـ ٣٥٥ ، تفسير روح المعاني ٢٥ / ٢١ ـ ٢٢ ، تفسير الفخر الرازي ٢٧ / ١٥٤ ، تفسير الكشاف ٣ / ٤٦٣ ـ ٤٦٤ ، تفسير الرحمن في تفسير كلام المنان ٧ / ٩٦ ـ ٩٧ (مكة المكرمة ١٣٩٨ ه‍).

٣١١

شاء الله تعالى أن يخرق هذه القاعدة المختارة في فرد من بني الإنسان ، فينشئه نشأة قريبة وشبيهة بالنشأة الأولى ، وإن لم تكن مثلها تماما ، أنثى فقط تتلقى النفخة التي تنشئ الحياة ابتداء ، فتنشأ فيها الحياة (١) ، وهكذا جاء عيسى بن مريم إلى هذه الدنيا بطريقة أشبه بتلك التي جاء بها آدم عليه‌السلام ، وصدق الله العظيم حيث يقول : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٢).

صحيح أن ولادة عيسى عجيبة حقا بالقياس إلى مألوف الناس ، ولكنه صحيح كذلك أنه لا غرابة فيها حين تقاس إلى خلق آدم أبي البشر ، وأهل الكتاب الذين يناظرون ويجادلون حول عيسى بسبب مولده ، ويصوغون حوله الأوهام والأساطير بسبب أنه نشأ من غير أب ، أهل الكتاب هؤلاء كانوا يقرون بنشأة آدم من التراب ، وأن النفخة من روح الله هي التي جعلت منه هذا الكائن الإنساني ، دون أن يصوغوا حول آدم الأساطير التي صاغوها حول عيسى ، ودون أن يقولوا عن آدم : إن له طبيعة لاهوتية ، على حين أن العنصر الذي صار به آدم إنسانا هو ذاته العنصر الذي ولد به عيسى من غير أب ، عنصر النفخة الإلهية في هذا وذاك ، وإن هي إلا الكلمة «كن» تنشئ ما تراد له النشأة «فيكون» وهكذا تتجلى بساطة هذه الحقيقة ، حقيقة عيسى وحقيقة آدم وحقيقة الخلق كله ، وتدخل إلى النفس في يسر ، وفي وضوح ، حتى ليعجب الإنسان ، كيف ثار الجدل حول هذا الحادث ، وهو جار وفق السنة الكبرى ، سنة الخلق والنشأة جميعا (٣).

__________________

(١) في ظلال القرآن ١ / ٣٩٨.

(٢) سورة آل عمران : آية ٥٩ ، وانظر : تفسير الفخر الرازي ٨ / ٧٤ ـ ٧٦ ، تفسير الطبري ٣ / ٢٩٥ ـ ٢٩٧ ، تفسير ابن كثير ١ / ٥٥٠ ـ ٥٥٢ ، تفسير النسفي ١ / ١٦٠ ـ ١٦١ ، تفسير روح المعاني ٣ / ١٨٦ ـ ١٨٧.

(٣) في ظلال القرآن ١ / ٤٠٤ ـ ٤٠٥.

٣١٢

وأما معجزات المسيح عليه‌السلام ، فقد جاءت في عدة آيات من آي الذكر الحكيم (١) ، نذكر منها (أولا) أن الله تعالى يعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ، فأما «الكتاب» فقد يراد به الكتابة ، وكان عليه‌السلام أحسن الناس خطا في زمانه (٢) ، وقد يكون هو التوراة والإنجيل ، وأما «الحكمة» فهي حالة في النفس يتأتى معها وضع الأمور في مواضعها وإدراك الصواب واتباعه ، وهي خير كثير (٣) ، أو هي السنة التي يوحيها الله إليه في غير كتاب ، وأما «التوراة» ، فهو الكتاب الذي أنزله الله على موسى عليه‌السلام ، وأما «الإنجيل» فهو الكتاب الذي أنزله الله على عيسى عليه‌السلام ، وقد كان عيسى يحفظ هذا وذاك (٤).

ولعل مما تجدر الإشارة إليه أن التوراة إنما كانت كتاب عيسى كالإنجيل ، فهي أساس الدين الذي جاء به ، والإنجيل تكملة وإحياء لروح التوراة ، ولروح الدين التي طمست في قلوب بني إسرائيل ، وهذا ما يخطئ الكثيرون من المتحدثين عن المسيحية فيه فيغفلون التوراة ، وهي قاعدة دين المسيح عليه‌السلام ، وفيها الشريعة التي يقوم عليها نظام المجتمع ، ولم يعدل فيها الإنجيل إلا القليل (٥) ، ومن ثم فإن الله تعالى يقول على لسان المسيح : (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) (٦) ، يقول ابن كثير : وفيه دلالة على أن عيسى عليه‌السلام نسخ بعض شريعة التوراة ، وهو الصحيح ،

__________________

(١) أنظر : سورة آل عمران : آية ٤٧ ـ ٥٠ ، المائدة : آية ١١٠ ـ ١١٥ ، مريم : آية ٢٩ ـ ٣٣.

(٢) تفسير النسفي ١ / ١٥٨.

(٣) تفسير الظلال ١ / ٣٩٩.

(٤) تفسير ابن كثير ١ / ٥٤٦.

(٥) في ظلال القرآن ١ / ٣٩٩.

(٦) سورة آل عمران : آية ٥٠.

٣١٣

وقد قال بعض العلماء : لم ينسخ منها شيئا ، وإنما أحل لهم بعض ما كان يتنازعون فيه خطأ وانكشف لهم عن الغطاء في ذلك ، كما قال في الآية الأخرى : (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) (١) ، ويقول الطبري : إن عيسى كان مؤمنا بالتوراة مقرابها ، وأنها من عند الله (٢) ، وكذلك الأنبياء كلهم يصدقون بكل ما كان قبلهم من كتب الله ورسله ، وإن اختلفت بعض شرائع أحكامهم لمخالفة الله بينهم في ذلك ، مع أن عيسى كان ، فيما بلغنا ، عاملا بالتوراة لم يخالف شيئا من أحكامها ، إلا ما خفف الله عن أهلها في الإنجيل ، مما كان مشددا عليهم فيها (٣) ، وجاء في التفسير الكبير عن وهب بن منبه : أن عيسى عليه‌السلام كان على شريعة موسى عليه‌السلام ، كان يقرر السبت ويستقبل بيت المقدس ، ثم إنه فسر قوله : (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) بأمرين ، أحدهما : أن الأحبار كانوا قد وضعوا من عند

__________________

(١) تفسير ابن كثير ١ / ٥٤٦.

(٢) نرى لزاما علينا أن نبيّن هنا : أن التوراة التي كان عيسى عليه‌السلام مؤمنا بها مقرا بما فيها ، إنما هي التوراة التي أنزلها الله على موسى عليه‌السلام ، فيها هدى ونور ، فهي تقرر وحدانية الله تعالى وتنزيهه عن كل مظاهر النقص ، والتي ترتكز على الاعتراف باليوم الآخر ، والإيمان بما فيه من ثواب وعقاب وجنة ونار ، والتي تضمنت عظات وأفكار وشريعة لبني إسرائيل يحكم بها أبناؤهم ، والتي تقرر عصمة هؤلاء الأنبياء ، غير أن هذه التوراة الأصلية ببنودها ونصوصها وتعاليمها ، لا وجود لها بهذه الصورة الإلهية في التوراة المتداولة اليوم ، فلقد امتدت إليها يد أثيمة من أحبار يهود فحرفت وبدلت ، ثم كتبت سواها بما يتلاءم مع يهود ، ويتواءم مع مخططاتهم ، ثم زعموا بعد كل هذا ، أنها التوراة التي أنزلها الله تعالى على موسى عليه‌السلام : (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) ، هذا فضلا عن أن توراة موسى شيء ، والعهد القديم شيء آخر ، فالتوراة لا تعدو خمسة أسفار من أسفار العهد القديم ، البالغ عددها ٣٩ سفرا ، عند البروتستانت ، وأكثر من ذلك بسبعة أسفار ، عند الكاثوليك ، فضلا عن أسفار الأبوكريفا ، والأسفار المفقودة أو الخفية (قدم المؤلف دراسة مفصلة عن التوراة : أنظر : محمد بيومي مهران : إسرائيل ٣ / ١ ـ ٣٧٩ ـ الاسكندرية ١٩٧٩).

(٣) تفسير الطبري ٣ / ٢٨١.

٣١٤

أنفسهم شرائع باطلة ونسبوها إلى موسى ، فجاء عيسى ورفعها وأبطلها ، وأعاد الأمر إلى ما كان في زمن موسى عليه‌السلام ، وثانيهما : أن الله تعالى كان قد حرم بعض الأشياء على اليهود عقوبة لهم على بعض ما صدر عنهم من الجنايات ، كما قال تعالى : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) ، ثم بقي هذا التحريم حتى جاء عيسى عليه‌السلام ، ورفع تلك التشديدات عنهم ، وقال آخرون : إن عيسى رفع كثيرا من أحكام التوراة ، ولم يكن ذلك قادحا في كونه مصدقا بالتوراة على ما بيناه ، ورفع السبت ووضع الأحد قائما مقامه ، وكان محقا في كل ما عمل لأن الناسخ والمنسوخ كلاهما حق وصدق (١).

ومن ثم فإن قوله تعالى : (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) ، إنما يكشف عن طبيعة المسيحية الحقة ، فالتوراة التي تنزلت على موسى ، وهي تتضمن التشريع المنظم لحياة الجماعة وفق حاجة ذلك الزمان ، وملابسات حياة بني إسرائيل (بما أنها ديانة خاصة لمجموعة من البشر في فترة من الزمان) هذه التوراة معتمدة في رسالة المسيح عليه‌السلام وجاءت رسالته مصدقة لها ، مع تعديلات تتعلق بإحلال بعض ما حرم الله عليهم ، وكان تحريمه في صورة عقوبات حلت بهم على معاص وانحرافات ، أدبهم الله عليها بتحريم بعض ما كان حلالا لهم ، ثم شاءت إرادته أن يرحمهم بالمسيح عليه‌السلام فيحل لهم بعض الذي حرم عليهم (٢) ، أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الربيع أنه قال : كان الذي جاء به عيسى ألين مما جاء به موسى عليهما‌السلام ، وكان فيما حرم عليهم فيما جاء به موسى ، لحوم الإبل والثروب فأحلها لهم على لسان عيسى ،

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ٨ / ٥٩.

(٢) في ظلال القرآن ١ / ٤٠٠.

٣١٥

وحرمت عليهم شحوم الإبل فأحلت لهم فيما جاء به عيسى ، وفي أشياء من السمك وفي أشياء من الطير ، مما لا صيصة له ، وفي أشياء أخرى حرمها عليهم وشدد عليهم فيها ، فجاء عيسى بالتخفيف منه في الإنجيل ، وهذا يدل على أن الإنجيل مشتمل على أحكام تغاير ما في التوراة ، وأن شريعة عيسى نسخت بعض شريعة موسى ، ولا يخل ذلك بكونه مصدقا للتوراة ، فإن النسخ بيان لانتهاء زمان الحكم الأول ، لا رفع وإبطال (١).

هذا وقد جاء في إنجيل متى ، على لسان السيد المسيح ، «لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس والأنبياء ، ما جئت لأنقض بل لأكمل ، فإن الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل» (٢) وليس هناك من شك في أن التصديق بالكتب السابقة يعني أن الكتب المتأخرة إنما هي تجديد للمتقدمة وتذكير بها ، فلا تبدل معنى ولا تغير حكما ، وإنما الواقع غير ذلك ، فقد جاء الإنجيل بتغيير بعض أحكام التوراة ، كما جاء القرآن بتبديل بعض أحكام الإنجيل ، ولكن يجب أن يفهم أن هذا وذاك لم يكن من المتأخرة نقصا للمتقدم ، ولا إنكارا لحكمة أحكامه في إبانها ، وإنما كان وقوفا عند وقتها المناسب ، وأجلها المقدر (٣) ، ومن هنا كان قول سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنما جئت لأتمم مكارم الأخلاق» (٤).

وهكذا يمكن القول أن الإنجيل إنما كان نفحة إحياء وتجديد لروح الدين ، وتهذيب لضمير الإنسان ، بوصلة مباشرة بالله من وراء النصوص ،

__________________

(١) تفسير روح المعاني ٣ / ١٧١ ، تفسير الطبري ١ / ٢٨٢.

(٢) إنجيل ٥ / ١٧ ـ ١٨.

(٣) محمد عبد الله دزار : الدين بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان ـ القاهرة ١٩٦٩ ص ١٨٥ ـ ١٨٦.

(٤) عبد الحليم محمود : دلائل النبوة ومعجزات الرسول ـ القاهرة ١٩٧٤ ص ٤٦٢.

٣١٦

هذا الإحياء وهذا التهذيب ، هما اللذان جاء بهما المسيح وجاهد لهما حتى مكرت يهود به عليه‌السلام (١).

ومنها (ثانيا) أن الله تعالى جعله يكلم الناس في المهد وكهلا : فأما المهد فهو حجر الأم أو مضجع الصبي وقت الرضاع ، والمراد أن المسيح عليه‌السلام يكلم الناس في الحالة التي يحتاج الصبي فيها إلى المهد ، ولا يختلف هذا المقصود سواء كان في حجر أمه أو كان في المهد ، وأما الكهل في اللغة فهو ما اجتمع قوته وكمل شبابه ، وهو مأخوذ من قول العرب : اكتهل النبات إذا قوي (٢) ، والمراد أن المسيح يكلم الناس في هاتين الحالتين كلام الأنبياء من غير تفاوت بين حالة الطفولة وحالة الكهولة التي يستحكم فيها العقل ، ويستنبأ فيها الأنبياء ، وأما كلامه في المهد (٣) ، فدلالة على براءة أمه مما قذفه بها المفترون ، وحجة على نبوته ، قال ابن عباس : كان كلامه في

__________________

(١) في ظلال القرآن ١ / ٣٩٩.

(٢) نقل أن عمر عيسى عليه‌السلام إلى أن رفع كان ثلاثا وثلاثين وستة أشهر ، وعلى هذا فهو ما بلغ الكهولة ، والجواب من وجهين ، الأول : أن الكهل في أصل اللغة هو الكامل التام ، وأكمل أحوال الإنسان إذا كان بين الثلاثين والأربعين ، فصح وصفه بكونه كهلا في هذا الوقت ، والثاني هو قول الحسين بن الفضل البجلي : أن المراد بقوله : «كهلا» أن يكون كهلا بعد أن ينزل من السماء في آخر الزمان ، ويكلم الناس ويقتل الدجال ، قال الحسين بن الفضل : وفي هذه الآية نص في أنه عليه الصلاة والسلام سينزل إلى الأرض ، ومن ثم فقد ذهب سعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وغيرهما أنه عليه‌السلام رفع إلى السماء ، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ، وأنه سينزل إلى الأرض ويبقى حيّا فيها أربعا وعشرين سنة ، كما رواه ابن جرير بسند صحيح عن كعب الأحبار ، ويؤيده ما أخرجه ابن جرير عن ابن زيد في الآية قال : قد كلمهم عيسى في المهد ، وسيكلمهم إذا قتل الدجال وهو يومئذ كهل (تفسير الفخر الرازي ٨ / ٥٢ ، تفسير روح المعاني ٣ / ١٦٤ ، تفسير الطبري ٣ / ٢٧٢ ـ ٢٧٣ ، تفسير القرطبي ص ١٣٣٢ ـ ١٣٣٤ ، تفسير المنار ٣ / ٢٥٢ ـ ٢٥٥).

(٣) روى ابن إسحاق عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما تكلم أحد في صغره إلا عيسى وصاحب جريح» ، وفي رواية أخرى قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لم يتكلم في المهد إلا ثلاث : عيسى وصبي كان في زمن جريح وصبي آخر» (تفسير ابن كثير ١ / ٥٤٥).

٣١٧

المهد ساعة واحدة بما قصى الله تعالى لنا ، ثم لم يتكلم حتى بلغ أوان الكلام ، على أن ابن الأخشيد إنما يذهب إلى أنه كان يتكلم دائما ، وكان كلامه فيه تأسيسا لنبوته ، وإرهاصا لها ، وعليه يكون قوله : (وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) إخبارا عما يؤول إليه ، وقال الجبائي : إنه سبحانه أكمل عقله عليه‌السلام إذ ذاك وأوحى إليه بما تكلم به مقرونا بالنبوة وجوّز أن يكون ذلك كرامة لمريم دالة على طهارتها وبراءة ساحتها مما نسبه أهل الإفك إليها ، وأما كلامه في الكهولة فقد ذكر ، رغم أنه غير معجز ، لأسباب منها بيان كونه متقلبا في الأحوال من الصبا إلى الكهولة ، والتغيير على الله تعالى محال ، والمراد منه الرد على وفد نجران في قولهم : إن عيسى كان إلها ، ومنها أن يكلم الناس في المهد مرة واحدة لإظهار براءة أمه ثم عند الكهولة يتكلم بالوحي والنبوة ، ومنها أنه يكلم الناس حال كونه في المهد وكهلا على حد واحد ، وصفة واحدة ، وذلك لا شك أنه في غاية المعجز ، ومنها أن المراد أنه سيبلغ الكهولة (١).

بقيت الإشارة إلى أن النصارى أنكرت كلام المسيح في المهد ، محتجين بأن كلامه في المهد من أعجب الأمور وأغربها ، وبأنه لو حدث لشهده الجمع العظيم الذي يحصل القطع واليقين بقولهم ، لأن تخصيص مثل هذا المعجز بالواحد والاثنين لا يجوز ، ومتى حدثت الواقعة العجيبة جدا عند حضور الجمع العظيم فلا بد وأن تتوافر الدواعي على النقل فيصير ذلك بالغا حد التواتر ، وإخفاء ما يكون بالغا إلى حد التواتر ممتنع ، كما أن الإخفاء ممتنع لأن النصارى بالغوا في إفراط محبته إلى حيث قالوا إنه كان إلها ، ومن كان كذلك يمتنع أن يسعى في إخفاء مناقبه وفضائله ، بل ربما

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ٨ / ٥١ ـ ٥٢ ، تفسير الطبري ٣ / ٢٧١ ـ ٢٧٣ ، تفسير ابن كثير ١ / ٥٤٥ ، تفسير النسفي ١ / ١٥٨ ، تفسير الكشاف ١ / ٢٧٨ ، تفسير روح المعاني ٣ / ١٦٢ ـ ١٦٤.

٣١٨

يجعل الواحد ألفا ، فثبت أن لو كانت هذه الواقعة موجودة لكان النصارى أولى الناس بمعرفتها ، ولما أطبقوا على إنكارها ، علمنا أنه ما كان موجود البتة.

ورد المتكلمون عليهم بأن كلام عيسى عليه‌السلام في المهد إنما كان للدلالة على براءة مريم عليها‌السلام من الفاحشة ، وكان الحاضرون جمعا قليلين ، فالسامعون لذلك الكلام كان جمعا قليلا ، ولا يبعد في مثله التواطؤ على الإخفاء ، وبتقدير أن يذكروا ذلك ، إلا أن اليهود كانوا يكذبونهم في ذلك وينسبونهم إلى البهت ، فهم أيضا سكتوا لهذه العلة ، فلأجل هذه الأسباب بقي الأمر مكتوما إلى أن أخبر الله تعالى نبيّه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ، وأيضا فليس كل النصارى ينكرون ذلك ، فإنه نقل عن جعفر بن أبي طالب ، رضي الله تعالى عنه : لما قرأ علي النجاشي سورة مريم ، قال النجاشي : لا تفاوت بين واقعة عيسى ، وبين المذكور في هذا الكلام ، بذرة (١).

ومنها (ثالثا) شفاء المرضى وإبراء الأكمة وإحياء الموتى والإخبار عن بعض المغيبات ، قال تعالى ، على لسان المسيح : (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ، أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ ، وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٢) ، ولعل من الأهمية بمكان ، وقبل الحديث عن هذه الخوارق المعجزة ، الإشارة إلى أنه في هذه الآية (آل عمران ٤٩) وفي آية المائدة (١١٠) أن النص القرآني الكريم يذكر ، على لسان المسيح ، أن كل خارقة من هذه الخوارق التي جاءهم بها ، إنما جاءهم بها من عند الله تعالى ، كما حرص النص على ذكر

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ٨ / ٥٢ ـ ٥٣ ، تفسير روح المعاني ٣ / ١٦٣.

(٢) سورة آل عمران : آية ٤٩.

٣١٩

الله بكل واحدة منها تفصيلا وتحديدا ، ولم يدع القول يتم حتى يذكر في نهايته إذن الله زيادة في الاحتياط ، وهذه المعجزات في عمومها تتعلق بإنشاء الحياة أوردها ، أورد العافية وهي فرع عن الحياة ، ورؤية غيب بعيد عن مدى الرؤية ، وهي في صميمها تتسق مع مولد عيسى ومنهج الوجود والحياة على غير مثال ، إلا مثال آدم عليه‌السلام ، وإذا كان الله قادرا على أن يجري هذه المعجزات على يد واحد من خلقه ، فهو قادر على خلق ذلك الواحد من غير مثال ، ولا حاجة إذن لكل الشبهات والأساطير التي نشأت عن هذا المولد الخاص ، متى رد الأمر إلى مشيئة الله الطليقة ، ولم يقيد الإنسان الله ، سبحانه وتعالى ، بمألوف الإنسان (١).

وأما هذه المعجزات التي جاءت في هذه الآية وفي غيرها فهي : ـ

أولا : كان المسيح يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله تعالى : ـ

والمراد بالخلق هنا ، فيما يرى صاحب روح المعاني ، التصوير والإبراز على مقدار معين ، لا الإيجاد من العدم ، والمعنى أنني أقدر ، لأجل تحصيل إيمانكم ودفع تكذيبكم إياي ، أن اجعل من الطين شيئا مثل الطير المهيأ أو هيئة كائنة كهيئته ، فأنفخ فيه فيكون طيرا حيا طيارا كسائر الطيور ، وفي تفسير النسفي أي أقدر لكم شيئا مثل صورة الطير ، أي في ذلك الشيء المماثل لهيئة الطير ، فيصير طيرا كسائر الطيور ، وفي التفسير الكبير : أي أقدر وأصور ، فالخلق هو التقدير والتصوير ، وذلك لأن العبد لا يكون خالقا بمعنى التكوين والإبداع ، فوجب تفسير كونه خالقا بالتقدير والتسوية ، وهكذا كان المسيح عليه‌السلام يصور من الطين شكل ، طير ، ثم ينفخ فيه فيطير عيانا بإذن الله عزوجل ، الذي جعل هذا معجزة له ، تدل على أنه تعالى

__________________

(١) في ظلال القرآن ١ / ٣٩٩.

٣٢٠