رسائل آل طوق القطيفي - ج ٤

الشيخ أحمد آل طوق

رسائل آل طوق القطيفي - ج ٤

المؤلف:

الشيخ أحمد آل طوق


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٩

ولذا قالوا : لا يجوز (مررت بزيد وعمراً) بنصب عمرو. ولم ينقل ابن هشام (١) وغيره (٢) تجويزه إلّا عن ابن جنّي. وفي مسألتنا لا يمكن ظهور ذلك المحلّ على حال.

فإذن لا خلاف بين البصريّين والكوفيّين في امتناع نصب لفظ آله عطفاً على محل الضمير ، فلم يبق إلّا جرّه عطفاً على محلّ الضمير القريب. أمّا الكوفيون (٣) فلتجويزهم ذلك اختياراً ، ومثلهم جماعة من البصريّين (٤) ، وأكثر أئمّة المتأخّرين ، وأمّا أكثر البصريين (٥) فلداعية [الضرورة (٦)] ؛ إذ لا محيد عنه في العربيّة.

الثاني : وجود الطالب لذلك المحل. ذهب إليه البصريّون. وليس لفظ صلّى في مسألتنا طالباً للنصب ؛ لقصوره عن عمله في كلّ أحواله بذاته بلا واسطة ، فتكون البصريّة يمنعون عطف الآل بالنصب على محلّ الضمير بالسببين.

الثالث : أن يكون عمل العامل النصب في المعطوف عليه بحق الأصالة. ذهب إليه جلّ المحقّقين من البصريّين والكوفيّين والمتأخّرين (٧).

وليس لفظ صلّى قابلاً لعمل النصب في الضمير المجرور بالأصالة ؛ لأنّ اللازم لا يقتضي عمل النصب إلّا على ضرب من التجوّز بالتضمين أو بمقتضى الضرورة الشعرية. على أن لفظ صلّى لم يرد عاملاً للنصب في سعة ولا في ضرورة ، فأين ذلك المحلّ الّذي يصحّ عطف آله عليه إلّا في الوهم؟ وهو وهم ساقط.

فإذن امتنع نصب آله عند جميع أئمّة العربية لامتناع صحّته ؛ لعدم وجهه

__________________

(١) مغني اللبيب ٢ : ٦١٦.

(٢) همع الهوامع ٢ : ١٤١ ، حاشية الصبّان على شرح الأشمونيّ ٣ : ٨٩.

(٣) الإنصاف في مسائل الخلاف ٢ : ٤٦٣ ، شرح الرضيّ على الكافية ٢ : ٣٣٦ ، شرح ابن عقيل ٣ : ٢٣٩ ، همع الهوامع ٢ : ١٣٩ ، حاشية الصبّان على شرح الأشمونيّ ٣ : ١١٤.

(٤) أوضح المسالك ٣ : ٦١ ، همع الهوامع ٢ : ١٣٩ ، حاشية الصبّان على شرح الأشمونيّ ٣ : ١١٤ ، ١١٥ ، خزانة الأدب ٢ : ٣٣٨.

(٥) الإنصاف في مسائل الخلاف ٢ : ٤٦٣ ، شرح الرضيّ على الكافية ٢ : ٣٣٦ ، همع الهوامع ٢ : ١٣٩.

(٦) في المخطوط : (الضرورية).

(٧) انظر مغني اللبيب ٢ : ٦١٦ ٦١٧ ، همع الهوامع ٢ : ١٤١ ، حاشية الصبّان على شرح الأشمونيّ ٣ : ٨٩.

١٨١

بحسب قواعد العربيّة ، وإنّما خلاف البصريّة والكوفيّة فيما أمكن فيه ذلك لا فيما امتنع ، حتّى إنه نقل عن بعض أئمّة البصريّة التزام تقدير حرف الجرّ في مثل المسألة المبحوث عنها ؛ لامتناع نصبه في العربيّة. فحاذَرَ على مذهبه من عدم جواز العطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجارّ ، وارتكب جواز إعمال الحرف مقدّراً ، ولا يخفى ضعفه.

بطلان القول بنصب «آله» على المعيّة

وقد تبيّن عدم صحّة نصب آله عطفاً على محلّ المعطوف عليه ، فلم يبقَ إلّا نصبه على أن (الواو) واو المعيّة ، أو رفعه بفرضه مبتدأً حذف خبره ، [وهو] (صلّى الله عليهم) ، أو جرّه (١).

والأوّل باطل ؛ لفساد المعنى والخروج عن المقصود على تقديره ؛ لأنّ واو المعيّة لا تقتضي بأصل الوضع التشريك بين مدخولها وما قبلها في عامله ، كما صرّح به أئمّة العربيّة مثل ابن مالك (٢) ، وابنه (٣) ، والدماميني (٤) ، ونجم الدين سعيد ، والحريري ، وغيرهم (٥) ممّا لم يحضر. وإن كان ربما كان مثله في الاتّصاف بمضمون العامل لكن لا بجهة التبعيّة ولا بجهة دلالة (الواو) على ذلك ، فإنّك تقول : سرت والحائط ، والحائط لا يمكن في حقّه السير. وتقول : (سرت وزيداً) ، وربما كان زيد يسير أيضاً ، لكن لا بدلالة الواو ولا بالتبعيّة ، فإنّ (الواو) إنّما تدلّ بأصل الوضع على أنّك سرت وأنت مصاحِب لمدخول الواو حال سيرك ، سواء تحقّق منه سير في الواقع أم لا.

وهذا المعنى لا يصح في المبحوث عنه ؛ إذ لا ريب في أن المقصود طلب إدخال آله في الصلاة عليه تبعاً له ، وعلى المعيّة لا يكون إدخالهم في الصلاة عليه

__________________

(١) لم يفنّد المصنّف قدس‌سره هنا القول بأن «آله» مرفوع على أنه مبتدأ خبره محذوف ، لكن انظر الرسالة السابقة في إعراب (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ص : ١٧٩.

(٢) شرح ألفيّة ابن مالك (ابن الناظم) : ٢٧٨ (المتن).

(٣) شرح الفيّة ابن مالك : ٢٧٨.

(٤) حاشية الصبّان على شرح الأشمونيّ ٢ : ١٣٤.

(٥) شرح شذور الذهب : ٢٤٣.

١٨٢

مقصوداً ؛ لعدم دلالة واو المعية عليه. وهذا خارج عن المقصود ، بل ربما دلّ بمفهومه على أن المصلّي لم يطلب من الله الصلاة على محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا حال المصاحبة لآله.

وهذا خارج عن مقاصد العقلاء وأهل الديانة.

ولا يرتاب عاقل في أن (الواو) للعطف وليست للمعيّة ، وإلّا لكان المعنى : صلّى الله عليه في حال مصاحبته لآله ، وهذا كلام لا معنى له ، والضرورة العقليّة والدينيّة تدفعه.

فإذن لم يبقَ إلّا الجرّ عطفاً على محلّ الضمير القريب ، والنصب ممتنع على كلّ حال ، ولا وجه له في العربيّة. ومن أراد استقصاء البحث في العطف والمعيّة هنا فليرجع إلى رسالتنا المعمولة في هذه المسألة قبل هذه ، وهي أوّل ما نطق به لسان قلمي في عرصة الطرس بلغة البيان.

دليل الاعتبار

الطريق الثالث : الاعتبار بالنظر إلى أصل ترتّب الوجود وفيضان الجود.

فنقول : اعلم أن العقل الفصيح بالبرهان الصريح والنقل المستفيض الصحيح كتاباً وسنّة (١) وإجماعاً نطقوا بلسان المقال والحال ، وكذا العقل بالملكة والفعّال بأنّ الله تعالى خلق ذوات آل محمّد صلى الله عليه وعليهم بعد ذاته ، ينفصلون منه كما ينفصل السراج من السِّراج ، وكما ينفصل الشعاع من نور الشمس. فذواتهم تبع لذاته ومن ذاته في كلّ مقام ، وصفاتهم تبع لصفاته ومن صفاته كذلك في كلّ مقام ، وقد صلّى الله عليه ، وعليهم تبعاً له في كلّ مقام.

فالصلاة عليهم منبجسة من الصلاة عليه كذلك في كلّ مقام ، والعوالم متطابقة ، وطبقات الوجود يصف بعضها بعضاً ويطابقه. فإذا قلت صلى‌الله‌عليه‌وآله بجرّ لفظ آله عطفاً على محلّ الضمير القريب فقد تطابق النظام الطبيعيّ والرقميّ والقوليّ اللسانيّ والخياليّ والنفسيّ والروحيّ والعقليّ والفؤاديّ ، وطابق الكلّ

__________________

(١) انظر بحار الأنوار ٢٥ : ١ ٣٦ ، باب بدء أرواحهم وأنوارهم وطينتهم عليهم‌السلام.

١٨٣

حكمة المشيئة في مراتبها السبع ، وطابق قولك اعتقادك الّذي قام عليه البرهان من السبل الثلاثة أنه ليس أحد يساوي محمَّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله في شرف القرب إلى الله عزّ اسمه ، وأن آله الأطياب عليهم‌السلام تابعون له في صفاته وما خصّه الله به من صلاته عليه في كلّ مقام ، حتّى في مقام العبارة اللفظيّة والرسم ، فيطابق ذلك النظم الوجوديّ الذي اقتضاه حكمة العليم الرحيم ، ويكون فيه إشارة إلى كمال وحدانيّة الله ، وتوحيد المصلّي عليه بصلاته على آله تبعاً له حتّى في العبارة اللفظيّة.

وفيه دلالة على أن محمَّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله هو السابق لكلّ كمال من صفات الجمال والجلال ، وأنه الواسطة لجميع من سواه في كلّ كمالٍ وَوُجود وَجود.

ولو نصبت لفظ آله كان ذلك إمّا على معنى أنّك فرضت تسلّط العامل على المتبوع بدون صلة وعطفت عليه ، ففرضت عمل العامل في المعطوف التابع بنفسه لا بصلة ، مع أنه لم يعمل في المتبوع بحسب الواقع الوجوديّ الّذي حكاه القوليّ إلّا بصلة ، فيلزم كون رتبة الصلاة على التابع سابقة على رتبة الصلاة على المتبوع ، ويلزم سبق الذات على الذات والصفة على الصفة ، بل ربما أفضى بوجه إلى أن رتبة الصلاة على التابع تساوي رتبة ذات المتبوع ، ولا أقلّ من لزوم مساواة ذات التابع لذات المتبوع ، والصلاة عليه للصلاة عليه. وهذا ربما انتهى إلى نفي وحدانيّة المصلّي عليه وعلى آله.

وبالجملة ، فلا ريب في أنه حينئذٍ يكون مخالفاً للترتيب الطبيعيّ والنظم الوجوديّ ، ومفضٍ إلى أن صلاة الله على آله أعلى من صلاته عليه ؛ لأنّ صلاته عليه بصلة وعليهم بلا صلة ، فيكون التابع من حيث هو تابع أشرف من المتبوع حينئذٍ. وهذا خلف محال ، فلا يكون ممّا صدر عن الشارع ، ولا يتعبّد به الناس المتقرّبين إلى الله بقول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقد ورد أن الصلاة على محمّد وآله تجديد للعهد المأخوذ لهم في الذرّ (١) ، وأنّها

__________________

(١) معاني الأخبار : ١١٥ ١١٦ / ١ ، مختصر بصائر الدرجات : ١٥٩ ، بحار الأنوار ٩١ : ٥٤ / ٢٥.

١٨٤

بمعنى سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر (١) ، وهي أركان الوجود الأربعة ، فلا تتأدّى بصيغة تخالف ما هنالك ، بل لا بدّ من الإقرار بولايتهم تبعاً لولايته في كلّ مقام حتّى في التكليف اللفظيّ والرسميّ ، ولا يجوز إفرادهم عنه ، ولا اعتقاد مساواتهم له ذاتاً وصفة حتّى في عالم الحروف والألفاظ.

وإمّا (٢) على المعيّة فيلزم منه ما ذكرناه من لزوم مساواته له ذاتاً وصفة ، أو صفة هي الصلاة من الله عليه وعليهم ، أو أنه خالٍ من إفاضة الصلاة عليه حتّى كان في مقام آله مصاحباً لهم ، فيلزمه أيضاً أن صلاة الله على آله لها مدخل في علّيّة صلاته عليه ، بل يؤول إلى أن ذاتهم يتوقف عليها إفاضة الصلاة عليه ، بل يتوقف على وجودهم وجوده بوجه. والكلّ باطل بالضرورة عقلاً وسمعاً. على أنه حينئذٍ خارج عن الدلالة على قصد الصلاة على آله تبعاً له ، كما عرفت.

فإمّا أن يكون في الواقع صلاة من الله أيضاً على آله أو لا. فعلى الأوّل (٣) ، فإمّا أن يكون وجودهم مساوياً لوجوده ، فيلزم تعدّد المبدأ وعدم وحدانيّة الفيض الأوّل الّذي [جعله (٤)] الله دليلاً على وحدانيّته ، فلا دليل حينئذٍ على وحدانيّته ، أو الصلاة عليهم [مساوية أو مساوقة (٥)] للصلاة عليه ، فيلزم ما مرّ مع مخالفة الواقع من الترتيب الوجوديّ والطبيعيّ ، ويلزم أيضاً عدم ملاحظة تبعيّتهم له. وفيه من المفاسد العقليّة والشرعيّة ما لا يخفى على المتدبّر لما قرّرناه.

فإذا عرفت هذا كلّه عرفت أنه لا مسوّغ لنصب لفظ آله في هذه الصيغة لا لغة ولا عقلاً ولا شرعاً ، فهي عبادة تعبّد الله بها عباده ، وجعلها معراجاً لحوائجهم إليه. فلا بدّ أن يتلفّظ بها على ما حصل اليقين بصدوره عن المعصوم وإذنه فيه ، وليس إلّا الجرّ.

__________________

(١) جمال الأُسبوع : ١٥٦ ، بحار الأنوار ٩١ : ٧١ ٧٢ / ٦٦.

(٢) عطف على (إما) في قوله : (ولو نصبت لفظة «آله» كان ذلك إما ..) الوارد في الصفحة السابقة.

(٣) لم يذكر المصنّف رحمه‌الله ما يترتّب على الثاني.

(٤) في المخطوط : (جعلها).

(٥) في المخطوط : (مساو أو مساوق).

١٨٥

وأمّا الرفع فلم نعلم أن أحداً احتمله ، ولا جاء به أثر ، ولا وجد في نسخة ممّا ورد فيه هذه الصيغة ، مع ما يلزمه من المخالفة للعقل والشرع.

فلا تغتر بما جوّزه بعض المعاصرين من إعرابه بالفتح ولا تعرّج عليه ، فإنّه لحن لغة وعقلاً ، ومخالف لما ثبت عن المعصوم عليه‌السلام من إعرابه بالجرّ في كلّ ما بلغنا عنه من دعاء أو خطبة أو خبر. واستعماله في الصلاة مبطل لها ؛ لأنه ليس على كيفيّة الذكر الوارد عن المعصوم عليه‌السلام ، بل هو على خلافه ، فهو من قبيل كلام الآدميّين المبطل تعمّدُه للصلاة.

١٨٦

خاتمة في كلام الشيخ أحمد الأحسائيّ

ولنختم الرسالة بذكر كلام لشيخنا الأعظم الشيخ أحمد بن زين الدين في هذا المقام تبرّكاً وتيمّناً قال مد الله في عمره ، بعد الكلام المنقول عنه في صدر الرسالة ـ : (وما نحن فيه الّذي تقتضيه اللغة الصحيحة الأصلية هو الجرّ في لفظة وآله خاصّة ، وأن الفتح مرجوح أو لا ينبغي وإنْ كان في (تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) (١) جائز الفتح أو راجحه. والفرق بينهما من جهة المعنى ، فإنّك إذا قرأت في صلى‌الله‌عليه‌وآله بالجرّ كانت الصلاة عليهم معطوفة على الصلاة عليه ، فهي تابعة ولاحقة ومتأخّرة عن الصلاة عليه رتبة ولفظاً ، وهذا هو المناسب للترتيب الطبيعيّ والوجوديّ ، فإنّ الله تعالى خلقه صلى‌الله‌عليه‌وآله قبلهم ، وخلقهم من نوره ، وصلّى عليهم بعده ، فعلى الجر يتّسق الترتيب الوجوديّ والطبيعيّ مع اللفظيّ.

وإذا قرأت بالفتح كان إمّا على المعيّة أو عطفاً على المحلّ. وفي الأوّل يلزم ظاهراً أن صلاة الله عليه وعليهم في الإفاضة سواء ، ويلزم من هذا إمّا التساوي في الوجود إنْ لاحظنا الترتيب الطبيعيّ وإمّا مخالفة الترتيب الطبيعيّ إنْ قدّرنا سبقه على وجودهم.

__________________

(١) النساء : ١.

١٨٧

وفي الثاني : يكون المراد من الضمير المجرور منصوب المحلّ ، بمعنى : أنه منصوب بالعامل ، فيكون العامل قد توجّه إليه في المعنى بدون واسطة الجارّ ، فتكون الصلاة واقعة عليهم بغير فاصل ، فإذا قرأت بالنصب كان المعطوف مشاركاً له في عدم الفاصل ، ويلزم التساوي في الوجود أو في الصلاة. فعلى التساوي في الوجود يلزم خلاف الواقع ، وعلى التساوي في الصلاة يلزم خلوّ السابق من صلة المتفضّل عزوجل إلى أن وجد اللاحق. ويلزم من هذا أفضليّة اللاحق ، وهو منافٍ للحكمة.

فإنْ قلتَ : إنه معطوف على المحلّ ، ولا يلزم التساوي في الوجود ولا في الصلاة ؛ لتأخره لفظاً.

قلتُ : إنّما يتوجّه هذا إذا كان المعطوف مجروراً ، ليكون عطفاً على لفظ الضمير الّذي دخل عليه لفظ الجارّ ، وأمّا إذا قدرت العطف على المحلّ فلا يتّجه ذلك ؛ لأنّ الألفاظ قوالب المعاني ، والإرادة لا تقصر المعاني عن قوالبها. فالّذي ينبغي : أن يقرأ بالجرّ ؛ لينتظم اللفظ على ترتيب الوجود والطبيعة.

وعلى هذا كان صلى‌الله‌عليه‌وآله أوّل مخلوق ، فكان نوره يطوف حول القدرة ثمانين ألف سنة ، وصلاة الله عليه واصبة دائمة ، ثمّ نزل إلى العظمة فخلق الله من نوره نور عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، كإيجاد السراج من السراج ، فكان نور عليّ عليه‌السلام يطوف بالقدرة ، ونور محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله يطوف بالعظمة ، صلّى الله عليهما وآلهما) (١) ، انتهى.

وما عبّر به من لفظ : (ينبغي) أراد به الوجوب وإنْ كان في الظاهر مدلوله الرجحان ؛ مراعاة لحال أكثر الناظرين الجارين على منهاج اللغة فلا يفهمون حقيقة ما قال. وإلّا فبحثه صريح في وجوب الجرّ وعدم جواز النصب بوجه ، فتأمّل.

وهذا آخر ما أردنا إملاءه ، والله العالم بحقيقة أحكامه ، ونسأله العفو. وقد جعلتها

__________________

(١) شرح الزيارة الجامعة الكبيرة ٤ : ٢٨٢ ٢٨٣.

١٨٨

وسيلة إلى الوقوف على باب سلطان العصر ، فإنْ قبلها فشأنه العفو والرحمة ، وإنْ ردّها فبجرائم مؤلّفها ، ولكنه باب الرحمة الّذي لا يَخيب مَنْ لاذ به.

والحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة على محمّد وآله المعصومين.

ختمت باليوم الثاني من شهر شعبان سنة (١٢٤١) ، الحادية والأربعين بعد المائتين والألف.

١٨٩
١٩٠

الرسالة الثانية والعشرون

في حرمة أُم وأُخت وابنة الملاط به على اللائط

١٩١
١٩٢

بسم الله الرحمن الرحيم

تحقيق حال وكشف سجال

حرمة أُمّ وأخت وابنة الملاط به على اللائط (١)

قال المحقق الثاني الشيخ علي في (شرح القواعد) : (أطلق الأصحاب أن من لاط بغلام أو رجل فأوقب ، حرمت عليه أُمّ الغلام وأُخته وبنته. والأصل في ذلك ما رواه ابن أبي عمير في الصحيح عن رجل عن الصادق عليه‌السلام في الرجل يعبث بالغلام قال إذا أوقب حرمت عليه أُخته وبنته (٢).

وروى إبراهيم بن عمر عن الصادق عليه‌السلام في رجل لعب بغلام هل تحل له امّه قال إن كان ثقب فلا (٣)) (٤).

ثم قال في شرح قول العلّامة : (ويتعدى التحريم إلى الجدات وبنات الأولاد دون بنت الأخت) ـ : (أي يتعدّى التحريم على الفاعل إلى جدات المفعول وإن

__________________

(١) الظاهر أن هذه الرسالة المقتبسة من (نزهة الألباب) هي من الجزء الثاني من (النزهة) ، وكما أشار المصنّف رحمه‌الله إلى ذلك في نهاية رسالة (النزهة) المطبوعة في المجلد الثالث من هذا المجموع.

(٢) الكافي ٥ : ٤١٧ / ٢ ، وسائل الشيعة ٢٠ : ٤٤٤ ، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها ، ب ١٥ ، ح ١.

(٣) تهذيب الأحكام ٧ : ٣١٠ / ١٢٨٧ ، وسائل الشيعة ٢٠ : ٤٤٥ ، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها ، ب ١٥ ، ح ٦.

(٤) جامع المقاصد ١٢ : ٣١٧.

١٩٣

بعدن ؛ لأبٍ كن أو لُامّ لصدق الامّ على كل منهنّ. وكأن هذا التحريم متفق عليه بين الأصحاب ، وكذا القول في بنات أولاده ؛ سواء بنات الذكور والإناث. أما بنت الأُخت ، فلا ؛ للأصل ، ولأن اسم الأُخت لا يقع عليها بحال من الأحوال) (١) ، انتهى.

وأقول : أطلق النص والأصحاب كما قال الشارح أن من أوقب غلاماً أو رجلاً حرمت عليه امّه وأُخته وبنته من غير تعرّض لذكر أولاد الأولاد فنازلاً ، ولا أُم الأُم فصاعداً ، قال في (المعالم) : (من لاط بغلام فأوقبه حيّاً أو ميّتاً حرمت عليه امّه وأُخته وبنته إن سبق ، وإلّا فلا. ولا فرق بين الصغير والكبير في الفاعل والمفعول به ، وفي الخنثى المشكل توقّف) ، انتهى.

وقال ابن سعيد في (النزهة) : (إذ لاط الرجل بصبيّ لم يجُز له بعد ذلك العقد على أُمّ الصبي ولا على بنته ولا على أُخته ، وحرُمن عليه أبداً) (٢) ، انتهى.

وقال في (الجامع) : (ويحرم على الفاعل أُخت المفعول به بالإيقاب وأُمّه وبنته ، وإن كانت زوجته انفسخ نكاحها ، وقيل : لا ينفسخ ولا يحرُمن بدون الإيقاب) (٣) انتهى.

وقال الشهيد في (اللمعة) : (من أوقب غلاماً أو رجلاً حرمت على الموقب أُمّ الموطوء وأُخته وبنته ، ولو سبق العقد لم تحرم) (٤) ، انتهى.

وقال ابن البراج في مهذّبه : (من فجر بغلام فأوقب ، حرم عليه العقد على امّه وابنته وأُخته) (٥) ، انتهى.

ومثلها عبارة (المقنعة) ، قال : (من فجر بغلام فأوقبه ، لم تحلّ له أُخت الغلام ولا امّه ولا بنته أبداً) (٦) ، انتهى.

__________________

(١) جامع المقاصد ١٢ : ٣١٨.

(٢) نزهة الناظر (ضمن سلسلة الينابيع الفقهيّة) ٣٨ : ٤٠٧.

(٣) الجامع للشرائع : ٤٨.

(٤) اللمعة الدمشقيّة : ١٦٥.

(٥) المهذب ٢ : ١٨٣.

(٦) المقنعة (ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد) ١٤ : ٥٠١.

١٩٤

وقال ابن حمزة في (الوسيلة) في مقام حصر من يحرم العقد عليها مؤبداً و [تعدادهن (١)] : (والتي يلوط بأبيها أو أخيها أو ابنها فأوقب) (٢) ، انتهى.

وقال ابن زهرة في (الغنية) : (ويحرم العقد على أُمّ الغلام الموقَب وأُخته وابنته ممّن لاط به) (٣) ، انتهى.

وقال العلامة في (التلخيص) في تعداد من يحرم العقد عليها : (وأُم من أوقبه وأُخته وبنته مع التأخّر) (٤) ، انتهى.

وقال في (الإرشاد) : (من أوقب غلاماً حرمت عليه امّه وأخته وبنته ، ولا تحريم لو سبق العقد) (٥) ، انتهى.

وقال في (الشرائع) : (من فجر بغلام فأوقبه حرم على الواطئ العقد على أُمّ الموطوء وأُخته وبنته ، ولا تحرم إحداهن لو كان العقد سابقاً) (٦) ، انتهى.

وقال في (النافع) : (من لاط بغلام فأوقب حرم عليه أُمّ الغلام وأُخته وبنته) (٧) ، انتهى.

فهذه عبارات صدور العلماء وأمثالها مما يطول ذكره قد أطلقت كالنصّ تحريم أُمّ المفعول به وأُخته وبنته على الموقب من غير تعرّض لذكر أولاد أولاده فنازلاً وجدّاته فصاعداً. والإطلاق إنما ينصرف إلى الحقيقة والفرد الكامل ، وهو هنا البنت إلى الصلب بلا واسطة ، والأُمّ الذي حملته في بطنها بلا واسطة ؛ فإن لفظ الامّ والبنت إنما يطلق حقيقة عليها لغة وعرفاً ، وإطلاقهما على ما نزل وصعد إنما هو بطريق المجاز كما هو المشهور بين العصابة قديماً وحادثاً ، بل هو المعروف من المذهب كما يظهر لمتأمّل أبواب الوصايا والنذور والأوقاف والإقرارات والمواريث

__________________

(١) في المخطوط : (تعدادهم).

(٢) الوسيلة إلى نيل الفضيلة : ٢٩٣.

(٣) غنية النزوع إلى علمي الأُصول والفروع / قسم الفروع : ٣٣٨.

(٤) تلخيص المرام (ضمن سلسلة الينابيع الفقهيّة) ٣٨ : ٤٦٦.

(٥) إرشاد الأذهان ٢ : ٣٨.

(٦) شرائع الإسلام ٢ : ٢٣٦.

(٧) المختصر النافع : ٢٨٣.

١٩٥

والحبوة وأولياء النكاح والأموال. وقد حققنا ذلك في رسالة مفردة (١).

وممّا ينبهك على أن أئمة الفقه إنما أرادوا بهذا الإطلاق الامّ والبنت الملاصقتين بلا واسطة أن الفاضل المحقق الهندي في (كشف اللثام) قال بعد قول العلّامة : (يتعدى التحريم إلى الجدات وبنات الأولاد) ـ : وفاقاً لابن إدريس ، قال : (لأنهن أُمّهات وبنات حقيقة) (٢) وفيه نظر) (٣) ، انتهى.

فقد رأيته خصّ الموافقة بابن إدريس ولم ينقل التعدية عن غيره ، وهو صريح في أنه إنما فهم من تلك الإطلاقات خصوص الملاصقات ، فأين هذا من ظاهر عبارة الكركي؟

وقال الشهيد الثاني في (المسالك) : (ويتعدى الحكم إلى الأم وإن علت ، والبنت وإن سفلت ؛ إمّا من حيث شمولها لذلك حقيقةً ، أو للاتّفاق عليه كالأصل ، وإلّا فللكلام في التعدّي مجال ؛ لما عرفت من أنهما حقيقتان في المتصلتين دون المنفصلتين بالوسائط) (٤) ، انتهى.

وقد فرع الحكم على شمول الاسم حقيقة لما نزل وصعد ، وعدمه ؛ وحكم بعدم الشمول. ولا ريب في عدم شموله لهما حقيقة كما هو المشتهر بين الأصحاب ، وقام عليه البرهان عقلاً ونقلاً ولغة وعرفاً كما حققناه في الرسالة (٥).

فظهر أن كل من قال بعدم دخولهما في إطلاق الاسم حقيقة لزمه القول بعدم تحريمها كما هو مقتضى إطلاقهم مع عدم تعرّضهم لما نزل وعلا تبعاً للدليل وإطلاقه. فإطلاقهما مع الإعراض عن بيان تعدي الحكم لما نزل وصعد مع أن الحكم ممّا تعمّ به البلوى دليل على أن من نزل وعلا غير ملحوظ في الحكم

__________________

(١) انظر في الرسالة الرابعة عشرة من الجزء الثاني وهي رسالة تمشية الحبوة إلى ولد الولد.

(٢) السرائر ٢ : ٥٢٥.

(٣) كشف اللثام ٢ : ٣٨ (حجري).

(٤) مسالك الأفهام ٧ : ٣٤٣.

(٥) انظر الرسالة الرابعة عشرة من الجزء الثاني ، وهي رسالة تمشية الحبوة إلى ولد الولد.

١٩٦

بالتحريم خصوصاً مع أن المعروف بينهم وفي العرف العامّ اختصاص الاسم بالملاصقتين ، وإنما يطلق على من علا ونزل بقرينة ، ولا قرينة هنا.

فقد ظهر من هذا أنه لا نصّ ولا إجماع على تعدي الحكم بالتحريم لما نزل وعلا ، والأصل وظاهر الكتاب يدلّان على عدم تحريمهما ؛ فإن أراد المحقق الكركي بقوله : (وكأن هذا التحريم متفق عليه بين الأصحاب) : حُكمَ تحريم الأصلين ، فنعم ، وإن أراد به : تعدّي الحكم لجدات المفعول به وإن علون وبنات بناته وأولاده وإن نزلن ، فممنوع. والذي ظهر من هذا التقرير عدم حرمة ما نزل من البنات وما علا من الجدات ؛ لعدم الدليل عليه من نص أو إجماع.

نعم ، يلزم القائل بأن إطلاق اسم الامّ يشمل الجدة وإن علت ، واسم البنت يشمل بنت البنت وبنت الولد وإن نزلت القولُ بذلك لإطلاق الدليل ، ونحن قد برهنّا على ضعف هذا القول ، بل سقوطه ، فلا تغفل ، والله العالم (١).

__________________

(١) ورد في الصفحة الاولى من المخطوط هذه العبارة : (من (كتاب نزهة الألباب ونزل الأحباب) لشيخنا المحقق الفاضل المدقق الشيخ أحمد ابن المبرور المقدس الشيخ صالح ابن المرحوم الحاج سالم بن طوق ، حرسه الله تعالى).

١٩٧
١٩٨

الفهارس العامة للكتاب

فهرس الآيات

فهرس الأحاديث والروايات

فهرس الشعر والرجز

فهرس الأعلام

فهرس الأديان والفرق والمذاهب والطوائف

فهرس الأماكن

مصادر التحقيق

فهرس الموضوعات

١٩٩
٢٠٠