ظاهرة الاتباع وكثرة النقول وتكرار ملامح من الماضي الثقافي والحضاري هي التي كانت سائدة في الرحلات الحجازية ، أما الرحلات السفارية فهي أكثر تجددا في الجانب الحضاري والتنظيم السياسي ، والتقدم الاجتماعي والعسكري والصناعي والعلمي وغير ذلك. فتميزت رحلة الجعيدي بهذه المعطيات عن الأصناف الأخرى. خاصة أن الجعيدي يتحدث عن الحضارة الغربية في رحلته بلهجة إيجابية توحي بالتبني بعيدا عن الانبهار الغيبي ، وفي نفس الوقت يعارض من يفتخر بها ويعتبره خارجا عن الطريق المستقيم ، فالمؤلف يفرق بين الصنائع المستحدثة من جهة وبين طريقة عيش الأوربيين كالنصارى ، واحتكامهم إلى قوانينهم غير الشريعة الإسلامية فيستحسن الأولى ويستنكر الثانية مستعيذا بالله ممن يغتر بهذه الأشياء.
طريقتنا في التحقيق
إن دراسة وتحقيق «إتحاف الأخيار بغرائب الأخبار» تلاقي عدة صعوبات لعل أولها طريقة التعامل مع هذه النسخة الفريدة والتي تمثل نموذجا لقراءة مغربية للمجتمع الأوربي ، فهي ليست قراءة للمجتمع الآخر أو وصفه بقدر ما هي تعبير عن مجتمع الجعيدي وتعريف له بالسلب المنطقي ، حيث لا يسجل الجعيدي في رحلته إلا الأشياء التي يفتقدها في مجتمعه الأصلي ، ليصل في النهاية إلى تحديد مجتمعه الذي يخطو خطواته الأولى نحو الإصلاح. ويمكننا القول أن الرحلات السفارية قد ساهمت بقدر كبير في الدفع بهذه الخطوات نحو الأمام ، كما ستثبته الدراسة ، لأن معظم الرحلات السفارية التي تم تحقيقها وطبعها لم تتطلب من المحقق سوى الحصول على النسخة الأصلية أو على أقرب النسخ إلى الأصل ، وهي أدنى درجة من درجات التحقيق لتوزع في أسواق الكتب باعتبارها كانت مفقودة أو نادرة (١) جدا. أما
__________________
(١) هذا في نظري ضروري نظرا للطبيعة الاستعجالية للمرحلة التي أفرزتها (حاجة الباحثين والمهتمين والطلبة إلى توفر هذه المصادر بأثمان مناسبة) لكن المرحلة الحالية يجب أن تتجاوز هذا المستوى من التحقيق بإعادة قراءته وتوضيحه عبر قنوات تعبر النص في عمقه ، وتكشف خباياه المدفونة ، وتنير المكشوف من محتوياته بأضواء جديدة لإبراز بعدها المستقبلي ، قصد إغناء النص.