عن الأنشطة السياسية إلا أن هذا الأسلوب ظل واضحا ومفهوما يتخلله السجع ويستشهد بأبيات شعرية بدون أن يذكر أصحابها ويكتفي بعبارة (كما قيل) بدون إفراط في ذلك. وطبيعة الرحلة فرضت على صاحبها تعدد المواضيع التي تشهد له باطلاعه الواسع ، لأنه عالج الكثير من الأمور التي كانت تشغل الفكر المغربي في ذلك العصر ، وكأن الرحلة هي مفتاح لطرحها ووسيلة للتعارف والتعريف.
فأحداث الرحلة فرضت على الجعيدي ضرورة اختيار منهج علمي واضح ، مبني على العناصر التالية : السماع والمشاهدة والوصف والوعي والدراية. ويتمسك بموضوعية الرحلة التي تنبغي أن ترتبط أخبارها بالصدق والجدية وألا تكون المعلومات منقولة وإنما مأخوذة من المشاهدة والبحث والاتصال باعتبار مرتبته العلمية التي تجعل منه رسول فكر وحضارة وثقة من حيث (١) كفاءته وشهادته ، مع العمل على التجديد الذي ينبغي أن يبتدئ من الرحالة نفسه ، في تفكيره وتكوينه وتمدنه وتطوره الحضاري ، لهذا استطاع أن ينفذ إلى عمق المواضيع الرئيسة التي أجبر على دراستها وفهمها قصد كشفها واختبارها لباعثه الذي ينتظر منه الكثير ليساعده أن يكون في مستوى اتخاذ القرار الصائب ، الذي يعود بالمنفعة عليه وعلى بلاده ، وبذلك يكون اجتهاده الفكري في مستوى تطلعات حكامه لتظهر بلاده بالمظهر اللائق بها ، وقد نحاسبه إذا ظهر منه تقصير في جهده من أجل تجديد فن الرحلة ، ويبدو جليا أن
__________________
(١) لكل رحلة رحالتها الذي قام بها وعانى مراحلها وظروفها وحوادثها الخاصة به فهي من هذه الناحية ترجمة نفسية وذاتية وأخلاقية للرحالة من حيث يشعر أو لا يشعر ـ مهما ألزم نفسه عدم التحدث عن شخصه ـ فهناك من انبهر بمنجزات الغرب إلى حد الدعوة إلى (التغريب) إذا أراد المسلمون إصلاح تخلفهم ، كرحلة سكيرج في رحلته إلى فرنسا عام ١٣٣٤ ه الذي دافع ومجد شعارات الدولة الحامية الفخيمة ، وفي المقابل هناك من يرفض كل فكر دخيل ، ويتخذون من عراقة الماضي درعا يحميهم من كل إغراءات الحداثة كرحلة الغيغاني الحجازية (مخطوط ب خ. ع. بالرباط رقم ج ٩٨) إلا أن الفئة الثالثة حاولت أن تتخذ موقفا وسطا بين هذا التضاد الفكري ، والرحالة السفاريون أهم من يمثل هذه الفئة مع تقديرهم للوطن والأهل لا تجد في ذكر التفوق أن وجد ، كرحلة الجعيدي والصفار وعبد السلام السائح وغيرهم ، وذلك بثقة وأمانة وبعين بصيرة ذكية ... نافذة.