ويحتمل أن يكون قوله : (وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) كناية عن نفخ جبريل فيها كما قال تعالى : (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا).
فذكر غير واحد من السلف أن جبريل نفخ في جيب درعها فنزلت النفخة إلى فرجها فحملت من فورها كما تحمل المرأة عند جماع بعلها. ومن قال إنه نفخ في فمها أو أن الذي كان يخاطبها هو الروح الذي ولج فيها من فمها ، فقوله خلاف ما يفهم من سياقات هذه القصة في محالها من القرآن ، فإن هذا السياق يدل على أن الذي أرسل إليها ملك من الملائكة وهو جبريل عليهالسلام ، وإنه إنما نفخ فيها ولم يواجه الملك الفرج بل نفخ في جيبها فنزلت النفخة إلى فرجها فانسلكت فيه ، كما قال تعالى : (فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) فدل على أن النفخة ولجت فيه لا في فمها ، كما رواه السدي بإسناده عن بعض الصحابة.
ولهذا قال تعالى : (فَحَمَلَتْهُ) أي فحملت ولدها (فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا) وذلك لأن مريم عليهاالسلام لما حملت ضاقت به ذرعا ، وعلمت أن كثيرا من الناس سيكون منهم كلام في حقها ، فذكر غير واحد من السلف. منهم وهب بن منبه أنها لما ظهرت عليها مخايل الحمل كان أول من فطن لذلك رجل من عباد بني إسرائيل يقال له يوسف بن يعقوب النجار ، وكان ابن خالها فجعل يتعجب من ذلك عجبا شديدا ، وذلك لما يعلم من ديانتها ونزاهتها وعبادتها وهو مع ذلك يراها حبلى وليس لها زوج ، فعرض لها ذات يوم في الكلام فقال : يا مريم هل يكون زرع من غير بذر؟
قالت : نعم ، فمن خلق الزرع الأول. ثم قال : فهل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت : نعم الله خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى. قال لها : فأخبريني خبرك. فقالت : إن الله بشرني (بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ* وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ).
ويروى مثل هذا عن زكريا عليهالسلام أنه سألها فأجابته بمثل هذا والله أعلم.
وذكر السدي بإسناده عن الصحابة : أن مريم دخلت يوما على أختها فقالت لها أختها :
أشعرت أني حبلى؟ فقالت مريم : وشعرت أيضا أني حبلى؟ فاعتنقتها وقالت لها أم يحيى : إني أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك وذلك قوله (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) ومعنى السجود هاهنا الخضوع والتعليم ، كالسجود عند المواجهة للسلام كما كان في شرع من قبلنا ، وكما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم.
وقال أبو القاسم ، قال مالك : بلغني أن عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا ابنة خالة وكان حملهما جميعا معا ، فبلغني أن أم يحيى قالت لمريم : إني أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك. قال مالك : أرى ذلك لتفضيل عيسى عليهالسلام ، لأن الله تعالى جعله يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص.
رواه ابن أبي حاتم.