قال الله تعالى : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا) أي في الوقت الذي أمر بالمجيء فيه (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) أي كلمه الله من وراء حجاب ، إلا أنه أسمعه الخطاب ، فناداه وناجاه ، قربه وأدناه. وهذا مقام رفيع ومعقل منيع ، ومنصب شريف ومنزل منيف ، فصلوات الله عليه تترى ، وسلامه عليه في الدنيا والأخرى.
ولما أعطي هذه المنزلة العلية والمرتبة وسمع الخطاب ؛ سأل رفع الحجاب ، فقال للعظيم الذي لا تدركه الأبصار القوي البرهان : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي) ثم بيّن تعالى أنه لا يستطيع أن يثبت عند تجليه تبارك وتعالى ، لأن الجبل الذي هو أقوى وأكبر ذاتا وأشد ثباتا من الإنسان ، لا يثبت عند التجلي من الرحمن ، ولهذا قال : (وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي).
وفي الكتب المتقدمة : أن الله تعالى قال له : «يا موسى أنه لا يراني حي إلا مات ، ولا يابس إلا تدهده» (١).
وفي الصحيحين عن أبي موسى عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «حجابه النور ـ وفي رواية النار ـ لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من حلقه» (٢).
وقال ابن عباس في قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) ذاك نوره الذي هو نوره. إذا تجلى لشيء لا يقوم له شيء.
ولهذا قال تعالى : (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً ، فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ.)
قال مجاهد : (وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) فإنه أكبر منك وأشد خلقا ، (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) فنظر إلى الجبل لا يتمالك ، وأقبل الجبل فدك على أوله ، ورأى موسى ما يصنع الجبل فخر صعقا.
وقد ذكرنا في التفسير ما رواه الإمام أحمد والترمذي ، وصححه ابن جرير والحاكم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت ، زاد ابن جرير وليث عن أنس أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قرأ : (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا) قال هكذا بإصبعه ، ووضع النبي صلىاللهعليهوسلم الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر ، فساخ الجبل.
__________________
(١) تدهده : تدحرج.
(٢) الحديث رواه مسلم في صحيحه (١ / ٧٩ / ٢٩٣) ولفظه «قام فينا رسول الله صلىاللهعليهوسلم بخمس كلمات فقال : «إن الله عزوجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه. يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار. وعمل النهار قبل عمل الليل. حجابه النور. (وفي رواية أبي بكر : النار). لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلفه». أه. ورواه ابن ماجة في سننه (مقدمة / ١٣ / ١٩٥). ورواه أحمد في مسنده (٤ / ٤٠١ / ٤٠٥ / حلبي).
غريب الحديث.
سبحات وجهه : السبحات جمع سبحة ، كغرقة وغرقات ، وفسر سبحات الوجه بجلالته.