الله فيه أهل كل سماء ، وهو فيها كالكعبة لأهل الأرض.
فأمر الله إبراهيم عليهالسلام أن يبنى له بيتا يكون لأهل الأرض كتلك المعابد لملائكة السموات ، وأرشده الله إلى مكان البيت المهيأ له ، المعين لذلك منذ خلق السموات والأرض ، كما ثبت في الصحيحين : «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق الله السموات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة».
ولم يجيء في خبر صحيح عن معصوم أن البيت كان مبنيا قبل الخليل عليهالسلام. ومن تمسك في هذا بقوله : «مكان البيت» فليس بناهض ولا ظاهر ، لأن المراد مكانه المقدر في علم الله ، المقرر في قدره ، المعظم عند الأنبياء موضعه ، من لدن آدم إلى زمان إبراهيم.
وقد ذكر أن آدم نصب عليه قبة ، وأن الملائكة قالوا له : قد طفنا قبلك بهذا البيت ، وأن السفينة طافت به أربعين يوما أو نحو ذلك. ولكن كل هذه الأخبار عن بني إسرائيل. وقد قررنا أنها لا تصدق ولا تكذب فلا يحتج بها ، فأما إن ردها الحق فهي مردودة.
وقد قال الله : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ.) أي أول بيت وضع لعموم الناس للبركة والهدى ؛ البيت الذي ببكة. وقيل محل الكعبة (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ) أي على أنه بناء الخليل ، والد الأنبياء من بعده وإمام الحنفاء من ولده ، الذين يقتدون به ويتمسكون بسننه. ولهذا قال : (مَقامُ إِبْراهِيمَ) أي الحجر الذي كان يقف عليه قائما لما ارتفع البناء عن قامته ؛ فوضع له ولده هذا الحجر المشهور ، ليرتفع عليه لما تعالى البناء وعظم الفناء. كما ذكر في حديث ابن عباس الطويل.
وقد كان هذا الحجر ملصقا بحائط الكعبة على ما كان عليه من قديم الزمان إلى أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه ؛ فأخره عن البيت قليلا ، لئلا يشغل المصلين عنده الطائفين بالبيت ؛ واتبع عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذا ؛ فإنه قد وافقه ربه في أشياء : منها قوله لرسوله صلىاللهعليهوسلم لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى ، فأنزل الله : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى)(١). وقد كانت آثار قدمي الخليل باقية في الصخرة إلى أول الإسلام. وقد قال أبو طالب في قصيدته اللامية المشهورة :
وثور ومن أرسى ثبيرا مكانه |
|
وراق ليرقى في حراء ونازل |
وبالبيت حق البيت من بطن مكة |
|
وبالله إن الله ليس بغافل |
وبالحجر المسود إذ يمسحونه |
|
إذ اكتنفوه بالضحى والأصائل |
وموطىء إبراهيم في الصخر رطبة |
|
على قدميه حافيا غير ناعل |
__________________
(١) رواه ابن كثير مطولا في تفسيره (١ / ٢٣٤ / عمدة التفاسير). رواه البخاري (٨ / ١٢٨ / فتح). وأحمد في مسنده رقم (١٥٧ ، ١٦٠ ، ٢٥٠ / شاكر). وذكر السيوطي في الدر المنثور (١ / ١١٨). وخرجه من دواوين كثيرة.