وقال قتادة : أدركت القوم حيرة سوء أي فأطرقوا ثم قالوا : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) أي لقد علمت يا إبراهيم أن هذه لا تنطق فكيف تأمرنا بسؤالها!
فعند ذلك قال لهم الخليل عليهالسلام : (أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ ، أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ).
كما قال : (فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ) قال مجاهد : يسرعون : قال : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) أي كيف تعبدون أصناما أنتم تنحتونها من الخشب والحجارة ، وتصورونها وتشكلونها كما تريدون (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ).
وسواء كانت : «ما» مصدرية أو بمعنى الذي ، فمقتضى الكلام أنكم مخلوقون ، وهذه الأصنام مخلوقة ، فكيف يتعبد مخلوق لمخلوق مثله؟ فإنه ليست عبادتكم لها بأولى من عبادتها لكم.
وهذا باطل ، فالآخر باطل للتحكم ؛ إذ ليست العبادة تصلح ولا تجب (١) إلا للخالق وحده لا شريك له.
* * *
(قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ* فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ).
عدلوا عن الجدال والمناظرة لما انقطعوا وغلبوا ، ولم تبق لهم حجة ولا شبهة إلى استعمال قوتهم وسلطانهم ، لينصروا ما هم عليه من سفههم وطغيانهم ، فكادهم الرب جل جلاله ؛ وأملى كلمته ودينه وبرهانه كما قال تعالى : (قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ* قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ* وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ).
وذلك أنهم شرعوا يجمعون حطبا من جميع ما يمكنهم من الأماكن ، فمكثوا مدة يجمعون له حتى إن المرأة منهم كانت إذا مرضت تنذر لئن عوفيت لتحملن حطبا لحريق إبراهيم ، ثم عمدوا إلى حوبة (٢) عظيمة فوضعوا فيها ذلك الحطب وأطلقوا فيه النار ، فاضطرمت وأججت والتهبت وعلاها شرر لم ير مثله قط.
ثم وضعوا إبراهيم عليهالسلام في كفة منجنيق (٣) صنعه لهم رجل من الأكراد يقال له «هيزن» وكان أول من صنع المجانيق ، فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.
ثم أخذوا يقيدونه ويكتفونه وهو يقول : لا إله إلا أنت سبحانك «رب العالمين» (٤) لك الحمد ولك الملك ، لا شريك لك.
__________________
(١) و : تجب ولا تصلح.
(٢) الحوبة : الحفرة.
(٣) المنجنيق : آلة ترمي بها الحجارة في الحرب.
(٤) رواه ابن عساكر في تاريخه (٢ / ١٤٧ / تهذيب) وفيه عاصم بن أبي النجود وقد سبقت ترجمته.