فلما خرجوا إلى عيدهم ، واستقر هو في بلدهم (فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ) أي ذهب إليها مسرعا مستخفيا ، فوجدها في بهو عظيم ، وقد وضعوا بين أيديها أنواعا من الأطعمة قربانا إليها فقال لها على سبيل التهكم والازدراء (أَلا تَأْكُلُونَ* ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ* فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ) لأنها أقوى وأبطش وأسرع وأقهر ، فكسرها بقدوم في يده كما قال تعالى : (فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً) أي حطاما ، كسرها كلها (إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ). قيل إنه وضع القدوم في يد الكبير ، إشارة إلى أنه غار أن تعبد معه هذه الصغار!
فلما رجعوا من عيدهم ووجدوا ما حل بمعبودهم (قالُوا : مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ).
وهذا فيه دليل ظاهر لهم لو كانوا يعقلون ، وهو ما حل بآلهتهم التي كانوا يعبدونها ، فلو كانت آلهة لدفعت عن أنفسها من أرادها بسوء لكنهم قالوا من جهلهم وقلة عقلهم وكثرة ضلالهم وخبالهم : (مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ).
(قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) أي يذكرها بالعيب والتنقص لها والازدراء بها ، فهو المقدم عليها والكاسر لها. وعلى قول ابن مسعود ، أي يذكرهم بقوله : (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ).
(قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) أي في الملأ الأكبر على رؤوس الأشهاد ، لعلهم يشهدون مقالته ويسمعون كلامه ، ويعاينون ما يحل به من الاقتصاص منه.
وكان هذا أكبر مقاصد الخليل عليهالسلام أن يجتمع الناس كلهم ، فيقيم على جميع عباد الأصنام الحجة على بطلان ما هم عليه ، كما قال موسى عليهالسلام لفرعون : (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى).
* * *
فلما اجتمعوا وجاءوا به كما ذكروا (قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ* قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا). قيل معناه : هو الحامل لي على تكسيرهم ، وإنما عرض لهم في القول (فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ).
وإنما أراد بقوله هذا أن يبادروا إلى القول بأن هذه لا تنطق ، فيعترفوا بأنها جماد كسائر الجمادات.
(فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) أي فعادوا على أنفسهم بالملامة ، فقالوا إنكم أنتم الظالمون. أي في تركها لا حافظ لها ولا حارس عندها.
(ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ) قال السدي : أي ثم رجعوا الى الفتنة ، فعلى هذا يكون قوله :
(إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) أي في عبادتها.