لتأمن من صائدها ، فرامت الرجوع فلم تقدر ، وبقيت ليلها في مكان يتهيّأ أخذها بلا اصطياد لاسترسالها فيه وعجزها عن الامتناع لمنع المكان لها ، فكانوا يأخذونها يوم الأحد ويقولون ما اصطدنا يوم السبت وإنّما اصطدنا في الأحد وكذب أعداء الله ، بل كانوا آخذين لها بأخاديدهم التي عملوها يوم السبت حتّى كثر من ذلك مالهم وثراؤهم وتنعّموا بالنساء وغيرها لاتّساع أيديهم. وكانوا في المدينة نيفا وثمانين ألفا ، فعل هذا منهم سبعون ألفا وأنكر عليهم الباقون ، كما قصّ الله (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ)(١) الآية ، وذلك أنّ طائفة منهم وعظوهم وزجروهم ومن عذاب الله خوّفوهم ، ومن انتقامه وشديد بأسه حذّروهم فأجابوهم عن وعظهم (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ ،) بذنوبهم هلاك الاصطلام (٢) ، (أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً) أجابوا القائلين لهم هذا : (مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ) إذ كلّفنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فنحن ننهى عن المنكر ليعلم ربّنا مخالفتنا لهم وكراهتنا لفعلهم ، قالوا : (وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)(٣) ونعظهم أيضا لعلّه تنجع فيهم المواعظ فيتّقوا هذه الموبقة ، ويحذروا من عقوبتها.
قال الله عزوجل : (فَلَمَّا عَتَوْا ،) حادوا وأعرضوا وتكبّروا عن قبولهم الزجر (عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ)(٤) مبعدين عن الخير مقصّين ، قال : فلمّا نظر لهم العشرة آلاف والنيف أنّ السبعين ألفا لا يقبلون مواعظهم ولا يحفلون بتخويفهم إياهم وتحذيرهم لهم ، اعتزلوهم إلى قرية أخرى قريبة من قريتهم وقالوا : نكره أن ينزل بهم عذاب الله ، ونحن في خلالهم ، فأمسوا ليلة ، فمسخهم الله تعالى كلّهم قردة وبقي باب المدينة مغلقا لا يخرج منه أحد ولا يدخل أحد ، وتسامع بذلك أهل القرى ، فقصدوهم وتسنّموا حيطان البلد ، فأطلعوا عليهم فإذا كلّهم رجالهم ونساؤهم قردة يموج بعضهم في بعض ، يعرف هؤلاء الناظرون معارفهم وقراباتهم وخلطاءهم ، يقول المطّلع لبعضهم : أنت فلان أنت فلانة؟ فتدمع عينه ويومىء برأسه أن نعم. فما زالوا كذلك ثلاثة أيام ، ثمّ بعث الله ـ عزوجل ـ عليهم مطرا وريحا فجرفهم إلى البحر ، وما بقي مسخ بعد ثلاثة أيّام ، وإنّما الذي
__________________
(١) الأعراف ٧ : ١٦٣.
(٢) اصطلمه : استأصله.
(٣) الأعراف ٧ : ١٦٤.
(٤) الأعراف ٧ : ١٦٦.