وقوله عزوجل : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ ...) الآية : قال ابن مسعود (١) وغيره : هذا عند النفخة الثانية وقيام الناس من القبور ؛ فهم حينئذ لهول المطلع واشتغال كل امرئ بنفسه قد انقطعت بينهم الوسائل ، وزال انتفاع الأنساب ؛ فلذلك نفاها سبحانه ، والمعنى : فلا أنساب نافعة ، وروي عن قتادة أنّه : ليس أحد أبغض إلى الإنسان في ذلك اليوم ممّن يعرف ، لأنّه يخاف أن يكون له عنده مظلمة (٢) ، وفي ذلك اليوم يفرّ المرء من أخيه ؛ وأمّه وأبيه ؛ وصاحبته وبنيه ، ويفرح كلّ أحد يومئذ أن يكون له حقّ على ابنه وأبيه ، وقد ورد بهذا حديث ، وكأنّ ارتفاع التساؤل لهذه الوجوه ، ثم تأتي في القيامة مواطن يكون فيها السؤال والتعارف.
قال ع (٣) : وهذا التأويل حسن ، وهو مرويّ المعنى عن ابن عباس (٤) ، وذكر البزّار من حديث أنس عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «ملك موكّل بالميزان ، فيؤتى بابن آدم ، فيوقف بين كفّتي الميزان ، فإن ثقل ميزانه ، نادى / الملك بصوت يسمع الخلائق : سعد فلان ٣٤ أسعادة لا يشقى بعدها أبدا ، وإن خفّ ميزانه ، نادى الملك بصوت يسمع الخلائق : شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدا (٥)» ، انتهى من «العاقبة». وروى أبو داود في «سننه» عن عائشة رضي الله عنها أنّها ذكرت النّار فبكت ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما يبكيك؟ قالت : ذكرت النّار فبكيت ، فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أمّا في ثلاثة مواطن ، فلا يذكر أحد أحدا ، عند الميزان حتّى يعلم : أيخفّ ميزانه أم يثقل ، وعند الكتاب حتّى يقول : (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) [الحاقة : ١٩] ، حتّى يعلم أين يعطى كتابه : أفي يمينه أم في شماله ، أم من وراء ظهره ، وعند الصراط ، إذا وضع بين ظهري جهنّم» (٦) ، انتهى. ولفح النار : إصابتها بالوهج والإحراق ، والكلوح انكشاف الشفتين عن الأسنان ، وقد شبه ابن
__________________
(١) أخرجه الطبريّ (٩ / ٢٤٤) برقم (٢٥٦٦٩) نحوه ، وذكره البغوي (٣ / ٣١٧) ، وابن عطية (٣ / ١٥٦) ، والسيوطي (٥ / ٣٠) ، وعزاه لابن المبارك في «الزهد» ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبي نعيم في «الحلية» ، وابن عساكر عن ابن مسعود بنحوه.
(٢) أخرجه الطبريّ (٩ / ٢٤٥) برقم (٢٥٦٧١) ، وذكره ابن عطية (٤ / ١٥٦) ، والسيوطي (٥ / ٣٠) ، وعزاه لعبد بن حميد عن قتادة.
(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ١٥٦)
(٤) أخرجه الطبريّ (٩ / ٢٤٤) برقم (٢٥٦٦٧) نحوه ، وذكره البغوي (٣ / ٣١٧) ، وابن عطية (٤ / ١٥٦)
(٥) أخرجه البزار (٣٤٤٥ ـ كشف) من حديث أنس بن مالك ، وذكره الهيثمي (١٠ / ٣٥٣) وقال : رواه البزار ، وفيه صالح المري ، وهو مجمع على ضعفه.
(٦) أخرجه أبو داود (٢ / ٦٥٤) كتاب السنة : باب في ذكر الميزان ، حديث (٤٧٥٥)