وأبطل سعيهم ، وقوله سبحانه : (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ) : نصّ في أن لهم فعلا ما زائدا على ما يحدثونه من التزويق ، (وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) بمعنى : أرهبوهم ، أي : فزّعوهم ، ووصف الله سبحانه سحرهم ب «العظيم» ، ومعنى ذلك من كثرته ، وروي أنهم جلبوا ثلاثمائة وستّين بعيرا موقورة بالحبال ، والعصيّ ، فلما ألقوها ، تحرّكت ، وملأت الوادي ، يركب بعضها بعضا فاستهول النّاس ذلك ، واسترهبهم ، قال الزّجّاج : قيل : إنهم جعلوا فيهم الزّئبق ، فكانت لا تستقرّ (١).
(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ)(١١٩)
وقوله سبحانه : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) : وروي أن موسى عليهالسلام لمّا كان يوم الجمع ، خرج متّكئا عى عصاه ، ويده في يد أخيه ، وقد صفّ له السحرة في عدد عظيم / ، حسبما ذكر ، فلما ألقوا واسترهبوا ، أوحى الله إليه ؛ أن ألق ، فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ، فعظم حتّى كان كالجبل.
وروي أن السحرة ، لمّا ألقوا ، وألقى موسى ، جعلوا يرقون ، وجعلت حبالهم تعظم وجعلت عصا موسى تعظم حتى سدّت الأفق ، وابتلعت الكلّ ، وروي أن الثعبان استوفى تلك الحبال والعصيّ أكلا ، وأعدمها الله عزوجل ، ومدّ موسى يده إلى فمه ، فعاد عصا كما كان ، فعلم السّحرة حينئذ أنّ ذلك ليس من عند البشر ، فخرّوا سجّدا مؤمنين بالله ورسوله ، و (تَلْقَفُ) معناه : تبتلع وتزدرد ، وقرأ ابن جبير (٢) : «تلقم» بالميم.
وقوله سبحانه : (فَوَقَعَ الْحَقُّ ...) الآية : أي : نزل ووجد ، وقال أبو حيان (٣) : فوقع ، أي : فظهر ، و «الحقّ» : يريد به سطوع البرهان ، وظهور الإعجاز ، و (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) لفظ يعمّ سحر السحرة ، وسعي فرعون ، وشيعته ، والضمير في قوله : (فَغُلِبُوا) : عائد على جميعهم أيضا ، وفي قوله : (وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ) ، إن قدّرنا انقلاب الجمع قبل إيمان السحرة ، فهم في الضمير ، وإن قدّرناه بعد إيمانهم ، فليسوا في الضمير ، ولا لحقهم صغار ؛ لأنهم آمنوا واستشهدوا رضي الله عنهم.
(وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (١٢٠) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (١٢٢) قالَ
__________________
(١) ذكره ابن عطية (٢ / ٤٣٩)
(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٢ / ٤٣٩) ، وقال أبو عبيد : ويقال : لفق ولقم ولهم بمعنى واحد.
(٣) ينظر : «البحر المحيط» (٤ / ٣٦٤)