وقوله سبحانه : (مِنْ أَمْرِ رَبِّي) يحتمل أن يريد أنّ الرّوح من جملة أمور الله التي استأثر سبحانه بعلمها ، وهي إضافة خلق إلى خالق ، قال ابن راشد في «مرقبته» : أخبرني شيخي شهاب الدّين القرافيّ عن ابن دقيق العيد ؛ أنّه رأى كتابا لبعض الحكماء في حقيقة النفس ، وفيه ثلاثمائة قول ، قال رحمهالله : وكثرة الخلاف تؤذن بكثرة الجهالات ، ثم علماء الإسلام اختلفوا في جواز الخوض فيها على قولين ، ولكلّ حجج يطول بنا سردها ، ثم القائلون بالجواز اختلفوا ، هل هي عرض أو جوهر ، أو ليست بجوهر ولا عرض ، ولا توصف بأنها داخل الجسم ولا خارجه ، وإليه ميل الإمام أبي حامد وغيره ، والذي عليه المحقّقون من المتأخّرين أنها جسم نوارنيّ شفّاف سار في الجسم سريان النار في الفحم ؛ والدليل على أنها في الجسم قوله تعالى : (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) [الواقعة : ٨٣] فلو لم تكن في الجسم ، لما قال ذلك ، وقد أخبرني الفقيه الخطيب أبو / محمد البرجيني رحمهالله عن الشيخ الصّالح أبي الطاهر الرّكراكيّ رحمهالله قال : حضرت عند وليّ من الأولياء حين النّزع ، فشاهدت نفسه قد خرجت من مواضع من جسده ، ثم تشكّلت على رأسه بشكله وصورته ، ثم صعدت إلى السماء ، وصعدت نفسي معها ، فلما انتهينا إلى السماء الدنيا ، شاهدتّ بابا ورجل ملك ممدودة عليه ، فأزال ذلك الملك رجله ، وقال لنفس ذلك الوليّ : اصعدي ، فصعدت ، فأرادت نفسي أن تصعد معها ، فقال لها : ارجعي ، فقد بقي لك وقت ، قال : فرجعت فشاهدت الناس دائرين على جسمي ، وقائل يقول : مات ، وآخر يقول : لم يمت ، فدخلت من أنفي ، أو قال : من عيني ، وقمت. انتهى.
* ت* : وهذه الحكاية صحيحة ، ورجال إسنادها ثقات معروفون بالفضل ، فابن راشد هو شارح ابن الحاجب الفرعيّ ، والبرجينيّ معروف عند أهل إفريقيّة وأبو الطاهر من أكابر الأولياء معظّم عند أهل تونس ، مزاره وقبره بالزلاج معروف زرته رحمهالله ، وقرأ الجمهور (١) : «وما أوتيتم» ، واختلف فيمن خوطب بذلك ، فقالت فرقة : السّائلون فقط ، وقالت فرقة : العالم كلّه ، وقد نص على ذلك صلىاللهعليهوسلم ؛ على ما حكاه الطبريّ (٢).
وقوله : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ ...) الآية : المعنى وما أوتيتم أنت يا محمّد ، وجميع الخلائق من العلم إلا قليلا ، فالله يعلّم من علّمه بما شاء ، ويدع ما شاء ، ولو شاء لذهب بالوحي الذي آتاك ، وقوله (إِلَّا رَحْمَةً) استثناء منقطع ، أي : لكن رحمة من ربّك تمسك
__________________
(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٤٨٢)
(٢) ينظر : «الطبري» (٨ / ١٤٤)