(ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ)(٥)
وقوله سبحانه : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا ...) الآية : وعيد وتهديد ، وما فيه من المهادنة منسوخ بآية السيف ، وروى ابن المبارك في «رقائقه» ، قال : أخبرنا الأوزاعيّ عن عروة بن رويم ، قال : قال رسول الله / صلىاللهعليهوسلم : «شرار أمّتي الّذين ولدوا في النّعيم ، وغذوا به ، همّتهم ألوان الطّعام ، وألوان الثّياب ، يتشدّقون بالكلام». انتهى (١).
وقوله : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) : وعيد ثان ، وحكى الطبريّ (٢) عن بعض العلماء ؛ أنه قال : الأول في الدنيا ، والثّاني في الآخرة ، فكيف تطيب حياة بين هذين الوعيدين.
وقوله : (وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ) : أي : يشغلهم أملهم في الدنيا ، والتزيّد منها.
قال عبد الحقّ في «العاقبة» : اعلم رحمك الله أنّ تقصير الأمل مع حبّ الدنيا متعذر ، وانتظار الموت مع الإكباب عليها غير متيسّر ، ثم قال : واعلم أنّ كثرة الاشتغال بالدنيا والميل بالكلّية إليها ، ولذّة أمانيّها تمنع مرارة ذكر الموت ؛ أن ترد على القلب ، وأن تلج فيه ؛ لأن القلب إذا امتلأ بشيء ، لم يكن لشيء آخر فيه مدخل ، فإذا أراد صاحب هذا القلب سماع الحكمة ، والانتفاع بالموعظة ، لم يكن له بدّ من تفريقه ، ليجد الذكر فيه منزلا ، وتلفي الموعظة فيه محلّا قابلا ، قال ابن السّماك رحمهالله : إن الموتى لم يبكوا من الموت ؛ لكنهم بكوا من حسرة الفوت ، فاتتهم والله ، دار لم يتزوّدوا منها ؛ ودخلوا دارا لم يتزوّدوا لها. انتهى. وإنما حصل لهم الفوت ؛ بسبب استغراقهم في الدنيا ، وطول الأمل الملهي عن المعاد ، ألهمنا الله رشدنا بمنّه.
وقوله سبحانه : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ ...) الآية : أي : فلا تستبطئنّ هلاكهم ، فليس من قرية مهلكة إلا بأجل ، وكتاب معلوم محدود.
(وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(٩)
(وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ ...) الآية : القائلون هذه المقالة هم كفّار قريش ، و «لو ما» بمعنى : لو لا ، فتكون تحضيضا ؛ كما هي في هذه الآية ، وفي البخاريّ :
__________________
(١) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» ص : (٢٦٢) رقم : (٧٥٨)
(٢) ينظر : «تفسير الطبري» (٧ / ٤٩٢)