من هذا الهمّ ، أو يكون ذلك منه على طريق التواضع. انتهى.
واختلف في البرهان الذي رآه يوسف ، فقيل : ناداه جبريل : يا يوسف ، تكون في ديوان الأنبياء ، وتفعل فعل السفهاء ، وقيل : رأى يعقوب عاضّا على إبهامه ، وقيل غير هذا ، وقيل : بل كان البرهان فكرته في عذاب الله ووعيده على المعصية ، والبرهان في كلام العرب : الشيء الذي يعطي القطع واليقين ، كان مما يعلم ضرورة أو بخبر قطعيّ أو بقياس نظريّ «وأن» في قوله : (لَوْ لا أَنْ رَأى) في موضع رفع ، تقديره : لو لا رؤيته برهان ربّه ، لفعل ، وذهب قوم إلى أنّ الكلام تمّ في قوله : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) ، وأن جواب «لو لا» في قوله : (وَهَمَّ بِها) ، وأن المعنى : لو لا أن رأى البرهان لهمّ ، أي : فلم يهمّ عليهالسلام ، وهذا قول يردّه لسان العرب ، وأقوال السلف* ت* : وقد ساق عياض هذا القول مساق الاحتجاج به متّصلا بما نقلناه عنه آنفا ، ولفظه : فكيف ، وقد حكى أبو حاتم عن أبي عبيدة ، أن يوسف لم يهمّ ، وأنّ الكلام فيه تقديم وتأخير ، أي : ولقد همّت به ، ولو لا أن رأى برهان ربه لهمّ بها ، وقد قال الله تعالى عن المرأة : (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) ، [يوسف : ٢٣] وقال تعالى : (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ) ، وقال : (مَعاذَ اللهِ ...) الآية. انتهى. وكذا نقله الداوديّ ولفظه : وقد قال سعيد بن الحدّاد : في الكلام تقديم وتأخير ، ومعناه : أنه لو لا أن رأى برهان ربّه لهمّ بها ، فلمّا رأى البرهان لم يهمّ ، انتهى. قال ابن العربيّ في «أحكامه» (١) : وقد أخبر الله سبحانه عن حال يوسف من حين بلوغه بأنه آتاه حكما وعلما ، والحكم : هو العمل بالعلم ، وكلام الله صادق ، وخبره صحيح ، ووصفه حقّ ، فقد عمل يوسف بما علّمه الله من تحريم الزنا ، وتحريم خيانة السيّد في أهله ، فما تعرّض لامرأة العزيز ، ولا أناب إلى المراودة ، بل أدبر عنها ، وفرّ منها ؛ حكمة خصّ بها ، وعمل بما علّمه الله تعالى ، وهذا يطمس وجوه الجهلة من النّاس والغفلة من العلماء في نسبتهم إلى الصّدّيق ما لا يليق ، وأقلّ ما اقتحموا من ذلك هتك السراويل ، والهمّ بالفتك فيما رأوه من تأويل ، وحاشاه من ذلك ، فما لهؤلاء المفسّرين لا يكادون يفقهون حديثا ؛ يقولون : فعل فعل ، والله تعالى إنما قال همّ بها ، قال علماء الصوفيّة : إن فائدة قوله تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً ...) [يوسف : ٢٢] أن الله عزوجل أعطاه العلم والحكمة ؛ بأن غلب الشهوة ؛ ليكون ذلك سببا للعصمة ، انتهى.
والكاف من قوله تعالى : (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ) : متعلّقة بمضمر ، تقديره : جرت أفعالنا وأقدارنا كذلك ؛ لنصرف ، ويصحّ أن تكون الكاف في موضع رفع بتقدير
__________________
(١) ينظر : «أحكام القرآن» (٣ / ١٠٨٢)