بعضهم خاف على نفسه من الاستغفار للمشركين ، فنزلت الآية مؤنسة ، أي : ما كان الله بعد / أن هدى إلى الإسلام ، وأنقذ من النار ليحبط ذلك ، ويضلّ أهله ؛ لمواقعتهم ذنبا لم يتقدّم من الله عنه نهي ، فأما إذا بيّن لهم ما يتّقون من الأمور ، ويتجنّبون من الأشياء ، فحينئذ من واقع شيئا من ذلك بعد النّهي ، استوجب العقوبة ، وباقي الآية بيّن.
(لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(١١٨)
وقوله سبحانه : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ ...) الآية : التوبة من الله تعالى هو رجوعه بعبده من حالة إلى أرفع منها ، فقد تكون في الأكثر رجوعا من حالة طاعة إلى أكمل منها ، وهذه توبته سبحانه في هذه الآية على نبيّه عليهالسلام ، وأما توبته على المهاجرين والأنصار ، فمعرّضة لأن تكون من تقصير إلى طاعة وجدّ في الغزو ونصرة الدّين ، وأما توبته على الفريق الذي كاد يزيغ ، فرجوع من حالة محطوطة إلى حال غفران ورضا ؛ وقال الشيخ أبو الحسن الشّاذليّ رحمهالله : في هذه الآية ذكر الله سبحانه توبة من لم يذنب لئلا يستوحش من أذنب ؛ لأنه ذكر النبيّ صلىاللهعليهوسلم والمهاجرين والأنصار ولم يذنبوا ، ثم قال : (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) ، فذكر من لم يذنب ليؤنس من قد أذنب ، انتهى من «لطائف المنن».
و (ساعَةِ الْعُسْرَةِ) يريد : وقت العسرة ، والعسرة الشّدّة ، وضيق الحال ، والعدم ، وهذا هو جيش العسرة الذي قال فيه صلىاللهعليهوسلم : «من جهّز جيش العسرة ، فله الجنة» (١) ، فجهزه عثمان بن عفّان رضي الله عنه بألف جمل ، وألف دينار ، وجاء أيضا رجل من الأنصار بسبعمائة وسق من تمر ، وهذه غزوة تبوك.
* ت* : وعن ابن عبّاس ؛ أنّه قيل لعمر بن الخطّاب : حدّثنا عن شأن ساعة العسرة ، فقال عمر : خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد ، فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش ، حتى ظنّنا أنّ رقابنا ستنقطع حتى إنّ الرجل لينحر بعيره ، فيعصر فرثه (٢) فيشربه ، ثم يجعل ما بقي
__________________
(١) أخرجه البخاري (٥ / ٤٧٧) كتاب «الوصايا» باب : إذا وقف أرضا أو بئرا ، حديث (٢٧٧٨) عن عثمان بن عفان به ، وأخرجه معلقا (٧ / ٦٥) كتاب «فضائل الصحابة» باب : مناقب عثمان بن عفان.
(٢) الفرث : السّرجين ما دام في الكرش.
ينظر : «لسان العرب» ص : (٣٣٦٩)