وقوله : (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) اختلف في الضمير أيضا ، هل يعود على مسجد النبيّ صلىاللهعليهوسلم أو على مسجد «قباء»؟ روي أن النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : «يا معشر الأنصار ، إنّي رأيت الله أثنى عليكم بالطّهور ، فماذا تفعلون؟» قالوا : يا رسول الله ، إنّا رأينا جيراننا من اليهود يتطهّرون بالماء يريدون الاستنجاء ، ففعلنا نحن ذلك ، فلمّا جاء الإسلام ، لم ندعه ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «فلا تدعوه إذن» (١).
والبنيان الذي أسّس على شفا جرف : هو مسجد الضّرار ؛ بإجماع ، و «الشّفا» : الحاشية والشّفير ، و (هارٍ) : معناه متهدّم بال ، وهو من : هار يهور ؛ (٢) البخاريّ : هار هائر تهوّرت البئر ، إذا تهدّمت وانهارت مثله. انتهى.
وتأسيس البناء على تقوى ؛ إنما هو بحسن النية فيه وقصد وجه الله تعالى ، وإظهار شرعه ؛ كما صنع في مسجد النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، وفي مسجد «قباء» ، والتأسيس على شفا جرف هار إنما هو بفساد النيّة وقصد الرياء ، والتفريق بين المؤمنين ، فهذه تشبيهات صحيحة بارعة.
وقوله سبحانه : (فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ) : الظاهر منه أنّه خارج مخرج المثل ، وقيل : بل ذلك حقيقة ، وأن ذلك المسجد بعينه انهار في نار جهنّم ؛ قاله قتادة وابن جريج (٣) ، وروي عن جابر بن عبد الله وغيره ؛ أنه قال : رأيت الدّخان يخرج منه على عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم (٤) ، وروي في بعض الكتب ؛ أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم رآه حين انهار بلغ الأرض السابعة ، ففزع لذلك صلىاللهعليهوسلم ، وروي أنهم لم يصلّوا فيه أكثر من ثلاثة / أيام ، وهذا كلّه بإسناد ليّن ، والله أعلم ، وأسند الطبريّ عن خلف بن ياسين ، أنه قال : رأيت مسجد المنافقين الذي ذكره الله في القرآن ، فرأيت فيه مكانا يخرج منه الدّخان (٥) وذلك في زمن أبي جعفر المنصور ، وروي شبيه بهذا أو نحوه عن ابن جريج (٦) : أسنده الطبري.
__________________
(١) تقدم تخريجه.
(٢) ينظر : «صحيح البخاري» (٨ / ١٦٤) كتاب «التفسير» باب : سورة التوبة.
(٣) أخرجه الطبري في تفسيره (٦ / ٤٧٩) برقم : (١٧٢٦٠ ـ ١٧٢٦١) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٨٥) ، والبغوي (٣ / ٣٢٨) ، وابن كثير (٢ / ٣٩١) ، و «الدر المنثور» للسيوطي (٣ / ٤٩٩) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس بنحوه.
(٤) أخرجه الطبري (٦ / ٤٧٩) برقم : (١٧٢٦٢) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٨٥) ، والبغوي (٢ / ٣٢٨) ، وابن كثير (٢ / ٣٩١) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٤٩٩) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه.
(٥) ذكره ابن عطية (٣ / ٨٦)
(٦) أخرجه الطبري (٦ / ٤٧٩) برقم : (١٧٢٦١)