وكان أجلد ممن أخذ الغرفة (١).
وقوله تعالى : (فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ...) الآية : أكثر المفسّرين على أنه إنّما جاوز النّهر من لم يشرب إلا غرفة ، ومن لم يشرب جملة ، ثم كانت بصائر هؤلاء مختلفة ؛ فبعض كعّ ، وقليل صمّم ، وهم عدّة أهل بدر ثلاثمائة ، وبضعة عشر رجلا.
وقوله تعالى : (قالُوا لا طاقَةَ).
قال ابن عبّاس : قال كثير من الأربعة الآلاف الباقية مع طالوت ، الذين جاوزوا النّهر : (لا) (٢) (طاقَةَ لَنَا) على جهة الفشل ، والفزع من الموت ، وانصرفوا عن طالوت ، فقال المؤمنون الموقنون بالبعث ، والرجوع إلى الله تعالى ، وهم عدّة أهل بدر : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ) ، والظنّ على هذا القول : اليقين والفئة : الجماعة التي يرجع إليها في الشدائد ، وفي قولهم ـ رضي الله عنهم ـ (كَمْ مِنْ فِئَةٍ ...) الآية : تحريض بالمثال ، وحضّ واستشعار للصبر ، واقتداء بمن صدق ربّه ، (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) بنصره وتأييده.
وقوله تعالى : (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً ...) الآية : (بَرَزُوا) : معناه صاروا في البراز ، وهو الأفيح من الأرض المتّسع ، والإفراغ : أعظم الصبّ ، وكان جالوت أمير العمالقة ، وملكهم ، وروي في قصّة داود وقتله جالوت ؛ أنّ أصحاب طالوت كان فيهم إخوة داود ، وهم بنو أيش ، وكان داود صغيرا يرعى غنما لأبيه ، فلمّا حضرت الحرب ، قال في نفسه : لأذهبنّ لرؤية هذه الحرب ، فلمّا نهض مرّ في طريقه بحجر ، فناداه : يا داود ، خذني ، فبي تقتل جالوت ، ثم ناداه حجر آخر ، ثم آخر ، ثم آخر ، فأخذها ، وجعلها في مخلاته ، وسار ، فلمّا حضر البأس ، خرج جالوت يطلب مبارزا ، فكعّ الناس عنه ؛ حتّى قال طالوت : من برز له ، ويقتله ، فأنا أزوّجه ابنتي ، وأحكّمه في مالي ، فجاء داود ، فقال : أنا أبرز له ، وأقتله ، فقال له طالوت : فاركب فرسي ، وخذ سلاحي ، ففعل ، وخرج في أحسن شكّة ، فلمّا مشى قليلا ، رجع ، فقال الناس : جبن الفتى ، فقال داود : إنّ الله سبحانه ، إن لم يقتله لي ، ويعينني عليه ، لم ينفعني هذا الفرس ، ولا هذا السّلاح ، ولكنّي أحبّ أن أقاتله على عادتي ، قال : وكان داود من أرمى النّاس بالمقلاع ، ٦٣ ب فنزل ، وأخذ مخلاته ، / فتقلّدها ، وأخذ مقلاعه ، فخرج إلى جالوت ، وهو شاك في السّلاح ، فقال له جالوت : «أنت ، يا فتى ، تخرج إليّ». قال : نعم ، قال : هكذا ؛ كما
__________________
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٣٤٥) بنحوه ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (١ / ٣٣٥)
(٢) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (١ / ٣٣٦)