عجيبة ، ولكن لا كل حكمة يوصل إليها بالعقل ، وينتهى إلى معرفتها بالتدبير ؛ ألا ترى أن الله تعالى جعل في الماء معنى يحيا به كل شيء ، ولو أراد أحد أن يتكلف استخراج المعنى الذي به صلح أن يكون طبيعة موافقا لإحياء كل شيء لا يمكنه ذلك ، وجعل في الطعام ما يغذي وينمي ، ولو أراد أحد أن يتعرف المعنى الذي يقع به الاغتذاء والإنماء لم يتدارك ؛ وكذلك جعل في العدد الذين سماهم حكمة ، ولكنا لا نصل إلى تعرفها (١) بعقولنا وتدبرنا.
وزعمت الباطنية أن في ذكر الأعداد التي عليها تركيب العالم تعريف الأعداد المجعولة في الروحانيات. فيقال لهم : من جعل الأعداد التي عليها تركيب العالم أولى بأن يتعرف بها الأعداد المجعولة في الروحانيات من أن تجعل الأعداد التي في الروحانيات [علما لاستدراك](٢) المجعولة في الجسدانيات؟
ثم يسألون عن الأعداد المجعولة في الروحانيات لأي معنى جعلت؟ وأي حكمة فيها؟ فليس جوابهم بعد هذا إلا العجز والاعتراف بالجهل ، فليقروا بالجهل من الابتداء من غير أن يتكلفوا استخراج ما يوجب عن حقيقة كان فيه ظهور عجزهم ، والله أعلم.
والأصل عندنا ما ذكرنا : أن أهل التوحيد (٣) اعتقدوا أن الله تعالى حكيم ، وأنه لا يجوز أن يخرج فعله عن حد الحكمة ؛ لأن الذي يحمل الإنسان على الخروج عن حد الحكمة في الشاهد أحد معان ثلاثة :
إما الجهل.
وإما العجز.
وإما الحاجة.
والله تعالى عالم لا يجهل ، وقوي لا يلحقه عجز عن وفاء ما وعد ، وغني لا تمسه حاجة ؛ فانتفت عنه الأسباب التي لديها يقع الخروج عن حد الحكمة ، فثبت أنه لا يجوز أن يخرج فعله عن حد الحكمة ، لكنهم إذا لم يعرفوا الحكمة بعقولهم ، ولم يتداركوها بتدبيرهم ، ظنوا أنه لا حكمة فيه ، وأنكروا أن يضاف ذلك إلى الله تعالى ، فأهل الدهر أنكروا البعث ، وأنكروا الصانع ؛ لما رأوا أشياء في الشاهد هي في الظاهر خارجة مخرج العبث ؛ وفعل الحكمة لا يخرج مخرج العبث ، فنفوا بهذا أن يكون للأشياء صانع ، ومن بني بناء ، ثم نقضه ، ثم أعاده إلى الحالة التي كان عليها قبل النقض ، لم يكن حكيما ، بل كان جاهلا سفيها ، فقاسوا أمر البعث على ذلك ، وظنوا أنه خارج مخرج العبث ؛ إذ ليس
__________________
(١) في ب : تعريفها.
(٢) في أ : على الاستدراك.
(٣) في ب : التوحد.