__________________
الله : من إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، ولجواز أن يكون المراد من الأب : المبدئ ؛ فإن القدماء كانوا يطلقون الأب على المبدئ ؛ إذن فمعنى أبي : مبدئي وموجدي ، وسمى عيسى ابنا ؛ تشريفا ؛ كما سمى إبراهيم خليلا. وأيضا : فمن كان متوجها بشيء ومقيما عليه يقال له : ابنه ؛ كما يقال : أبناء الدنيا ، وأبناء السبيل ؛ فجاز أن يكون تسمية عيسى بالابن ؛ لتوجهه في أكثر أحواله إلى الحق ، واستغراقه في أغلب الأوقات في جانب القدس ومما يؤكد ذلك : أنه جاء في الإصحاح السابع عشر من إنجيل يوحنا المذكور ؛ حيث دعا عيسى للحواريين ما لفظه : «وكما أنت يا أبي بي وأنا بك ، فليكونوا هم نفسا واحدة ؛ ليؤمن أهل العلم بأنك أنت أرسلتني ، وأنا قد استودعتهم المجد الذي مجدتنى به ورفعته إليهم ؛ ليكونوا على الإيمان واحدا ، كما أنا وأنت أيضا واحد ، وكما أنت حال في كذلك أنا فيهم ؛ ليكون كمالهم واحدا». وهذا لفظ الإنجيل ، وقد تبين فيه معنى الاتحاد والحلول على وجه مغير لما فهموه.
وجاء في الإصحاح التاسع عشر ما نصه : «إنى صاعد إلى أبيكم وإلهي وإلهكم». وهذا يدل بواسطة العطف على أن المراد من الأب : الإله ، وعلى أن عيسى مساو لهم في معنى البنوة والعبودية ، وإنه لمما يؤسف له : قلب هؤلاء القوم للحقائق ، ولبسهم الحق بالباطل ؛ فهذه ديانتهم بنيت على أساس التوحيد الخالص المعقول ـ جعلوها ديانة وثنية ؛ بتثليث غير معقول أخذوه من تثليث اليونان والرومان ، ديانة وشريعة سماوية نسخوا شريعتها برمتها وأبطلوها ، واستبدلوا بها بدعا وتقاليد غريبة عنها ، ديانة زهد وتواضع وتقشف وإيثار وعبودية ـ جعلوها ديانة طمع وجشع ، وكبرياء وترف ، واستعباد للبشر.
وبالجملة فإنهم غيروا وبدلوا ؛ حتى صارت الديانة التي هم عليها مقتبسة من الوثنية الأولى ، ولم يرد كلمة تدل على عقيدتها عن أنباء بني إسرائيل ، ونسبوها إلى المسيح ـ عليهالسلام ـ وليس عندهم نص من كلامه في أصول عقيدتها ـ التي هي التثليث ـ وإنما بقي عندهم نصوص قاطعة من كلامه في حقيقة التوحيد والتنزيه وإبطال التثليث ، وعدم المساواة بين الأب والابن الذي أطلق لفظه مجازا عليه وعلى غيره من الأبرار ، على أنه كان يعبر عن نفسه في الأكثر بابن الإنسان ، ولو لم يكن عندهم من النصوص إلا ما رواه يوحنا في الفصل السابع عشر من إنجيله ـ لكفي ؛ وهو قوله ـ عليهالسلام ـ : «وهذه هي الحياة الأبدية ، إن يعرفوك أنت الإله الحقيقى وحدك ، ويسوع المسيح الذي أرسلته» : فبين أن الله ـ تعالى ـ هو الإله وحده ، وأنه هو رسوله ، وهذا هو الذي دعا إليه القرآن ، وكان يجب أن يكون ذلك أساس عقيدتهم ، يرد إليه كل ما يوهم خلافه ـ ولو بالتأويل ـ لأجل التطابق بين المعقول والمنقول.
ونقل مرقس في الفصل الثاني عشر من إنجيله : أن أحد الكتبة سأله عن أول الوصايا؟ فأجاب يسوع : «أول الوصايا : اسمع يا إسرائيل ؛ الرب إلهنا رب واحد» ، فقال له الكاتب : جيدا يا معلم بالحق؟ فقال : «لأنه واحد وليس آخر سواه» ، فلما رأى يسوع أنه أجاب تفضل فقال له : «لست بعيدا عن ملكوت السموات فعلم من هذا أن التوحيد الخالص هو العقيدة المعقولة التي تؤخذ على ظاهرها بلا تأويل ، فإن فرضنا أنه ورد ما ينافيها وجب رده إليها.
ولو كان هؤلاء النصارى يقبلون نصوص إنجيل برنابا ـ لأتيناهم بشواهد منه على التوحيد مؤيدة بالبراهين العقلية والنقلية على أن المسيح بشر رسول قد خلت من قبله الرسل ، وليس بدعا فيهم ، ويكفي ردّا عليهم ما في الفصل الخامس والتسعين من إنجيل برنابا ـ الذي يحتج فيه بأقوال الأنبياء في التوحيد ، وأنه ـ تعالى ـ خلق كل شيء بكلمته وأنه يرى ولا يرى ، وأنه غير متجسد ولا مركب ، وغير متغير ، وأنه لا يأكل ولا يشرب ، ثم قال : «فإني بشر منظور ، وكتلة من طين أمشي على الأرض ـ