وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً).
اختلف فيه : قال بعضهم : خلق الله كلاما وصوتا ، وألقى ذلك في مسامعه.
وقال آخرون : كتب له كتابا فكلمه بذلك (١) ؛ فذلك معنى قوله : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) لا أن كلمه بكلامه ، ولا ندري كيف كان؟ سوى أنا نعلم أنه أحدث صوتا لم يكن ، فأسمع موسى ذلك كيف شاء ، وما شاء ، وممن (٢) شاء ؛ لأن كلامه الذي هو موصوف به في الأزل لا يوصف بالحروف ، ولا بالهجاء ، ولا بالصوت ، ولا بشيء مما يوصف به كلام الخلق بحال. وما يقال : هذا كلام الله ـ إنما يقال على الموافقة والمجاز ؛ كقوله : (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) [التوبة : ٦] ، ولا سبيل له أن يسمع كلام الله الذي هو موصوف به بالأزل ؛ ولكنه على الموافقة والمجاز يقال ذلك.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) يخرج هذا ـ والله أعلم ـ مخرج التخصيص له ؛ إذ ما من رسول إلا وقد كان له خصوصية ، [والكلام خصوصية] لموسى ـ عليهالسلام ـ إذ كلمه من غير أن كان ثمة سفير ورسول ، وكان لسائر الرسل وحيا يوحي إليهم ؛ أي : دليل برسول ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) دل المصدر على تحقيق الكلام ؛ إذ المصادر مما يؤكد حقائق ما له المصادر في موضوع اللغة ، وأيد ذلك الأمر المشهور من تسمية موسى : كليم الله ، وما جرى على ألسن الخلق من القول بأن الله كلم موسى ؛ فثبت أنه كان له فيما كلمه خصوصية لم يشركه فيها غيره من الرسل ، وعلى حق الوحي وإنزال الكتب له شركاء في ذلك من الرسل ؛ فثبت أن لما وصف به موسى خصوصية باين بها غيره ؛ على ما ذكره من خصوصية كثير من الرسل بأسماء أو نعوت أوجبت لهم الفضيلة بها ، وإن كان حمل ما يحتمل تلك الخصوصية ـ قد يتوجه إلى ما قد يشترك في ذلك جملة الرسل ؛ فعلى ذلك أمر تكليم موسى صلىاللهعليهوسلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ).
أخبر أنه بعث الرسل بالبشارة في العاقبة لمن أطاعه ، والإنذار لمن عصاه ؛ فهذا ليعلم أن كل أمر لا عاقبة له فهو عبث ، ليس من الحكمة ، وأن الذي دعا الرسل الخلق إليه إنما دعوا لأمر له عاقبة ؛ إذ في عقل كل أحد أن كل أمر لا عاقبة له ليس بحكمة ؛ فهذا ـ والله
__________________
(١) ينظر : البحر المحيط (٣ / ٤١٤).
(٢) في ب : مم.