كما قال : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) (١) وذلك لأنهم باعوا أنفسهم من الله بالجنة ، وجملة : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) مستأنفة لتقرير ما قبلها على طريق التّخييل ، في محل نصب على الحال ، والمعنى : أن عقد الميثاق مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم كعقده مع الله سبحانه من غير تفاوت. وقال الكلبي : المعنى : إن نعمة الله عليهم في الهداية فوق ما صنعوا من البيعة. وقيل : يده في الثواب فوق أيديهم في الوفاء. وقال ابن كيسان : قوّة الله ونصرته فوق قوّتهم ونصرتهم (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) أي : فمن نقض ما عقد من البيعة فإنما ينقض على نفسه ؛ لأن ضرر ذلك راجع إليه لا يجاوزه إلى غيره (وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ) أي : ثبت على الوفاء بما عاهد عليه في البيعة لرسوله. قرأ الجمهور : (فَسَيُؤْتِيهِ) بالتحتية ، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر بالنون ، واختار القراءة الأولى أبو عبيد وأبو حاتم ، واختار القراءة الثانية الفراء (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ) هم الذين خلفهم الله عن صحبة رسوله حين خرج عام الحديبية. قال مجاهد وغيره : يعني أعراب غفار ومزينة وجهينة وأسلم وأشجع والدّئل ، وهم الأعراب الذين كانوا حول المدينة. وقيل : تخلّفوا عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم حين سافر إلى مكة عام الفتح بعد أن كان قد استنفرهم ليخرجوا معه ، والمخلّف : المتروك (شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا) أي : منعنا عن الخروج معك ما لنا من الأموال والنّساء والذّراري ، وليس لنا من يقوم بهم ويخلفنا عليهم (فَاسْتَغْفِرْ لَنا) ليغفر الله لنا ما وقع منا من التخلف عنك بهذا السبب ، ولما كان طلب الاستغفار منهم ليس عن اعتقاد بل على طريقة الاستهزاء ، وكانت بواطنهم مخالفة لظواهرهم فضحهم الله سبحانه بقوله : (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) وهذا هو صنيع المنافقين. والجملة مستأنفة لبيان ما تنطوي عليه بواطنهم ، ويجوز أن تكون بدلا من الجملة الأولى. ثم أمر الله سبحانه رسوله صلىاللهعليهوسلم أن يجيب عنهم ، فقال : (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي : فمن يمنعكم ممّا أراده الله بكم من خير وشرّ ، ثم بيّن ذلك فقال : (إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا) أي : إنزال ما يضرّكم من ضياع الأموال وهلاك الأهل. قرأ الجمهور : (ضَرًّا) بفتح الضاد ، وهو مصدر ضررته ضرّا. وقرأ حمزة والكسائي بضمّها ، وهو اسم ما يضرّ ، وقيل : هما لغتان (أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً) أي : نصرا وغنيمة ، وهذا ردّ عليهم حين ظنّوا أن التخلف عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم يدفع عنه الضرّ ، ويجلب لهم النفع ، ثم أضرب سبحانه عن ذلك وقال : (بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) أي : إن تخلفكم ليس لما زعمتم ، بل كان الله خبيرا بجميع ما تعملونه من الأعمال التي من جملتها تخلفكم ، وقد علم أن تخلفكم لم يكن لذلك ، بل للشك والنفاق وما خطر لكم من الظنون الفاسدة الناشئة عن عدم الثقة بالله ، ولهذا قال : (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً) وهذه الجملة مفسرة لقوله : (بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) لما فيها من الإبهام ، أي : بل ظننتم أن العدوّ يستأصل المؤمنين بالمرة فلا يرجع منهم أحد إلى أهله ، فلأجل ذلك تخلفتم لا لما ذكرتم من
__________________
(١). النساء : ٨٠.