لأن السياق في المنافقين (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى) بما جاءهم به رسول الله صلىاللهعليهوسلم من المعجزات الظاهرة والدلائل الواضحة (الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ) أي : زيّن لهم خطاياهم وسهّل لهم الوقوع فيها ، وهذه الجملة خبر إن ، ومعنى (وَأَمْلى لَهُمْ) أن الشيطان مدّ لهم في الأمل ووعدهم طول العمر ، وقيل : إن الّذي أملى لهم هو الله عزوجل على معنى أنه لم يعاجلهم بالعقوبة. قرأ الجمهور (أَمْلى) مبنيا للفاعل ، وقرأ أبو عمرو وابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وأبو جعفر وشيبة على البناء للمفعول. قيل : وعلى هذه القراءة يكون الفاعل هو الله أو الشيطان كالقراءة الأولى ، وقد اختار القول بأن الفاعل الله الفرّاء والمفضل ، والأولى اختيار أنه الشيطان لتقدّم ذكره قريبا ، والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى ما تقدّم من ارتدادهم ، وهو مبتدأ وخبره (بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ) أي : بسبب أن هؤلاء المنافقين الذين ارتدّوا على أدبارهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله ، وهم المشركون (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) وهذا البعض هو عداوة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ومخافة ما جاء به. وقيل المعنى : إن المنافقين قالوا لليهود : سنطيعكم في بعض الأمر ، وقيل : إن القائلين اليهود والذين كرهوا ما أنزل الله المنافقون ، وقيل : إن الإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى الإملاء ، وقيل : إن الإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى الإسلام ، وقيل : إلى التسويل ، والأوّل أولى. ويؤيد كون القائلين المنافقين والكارهين اليهود قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) (١) ولما كان قولهم المذكور للذين كرهوا ما أنزل الله بطريقة السرّ بينهم. قال الله سبحانه : (وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) قرأ الجمهور بفتح الهمزة ، جمع سرّ ، واختار هذه القراءة أبو عبيدة وأبو حاتم. وقرأ الكوفيون وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم وابن وثاب والأعمش بكسر الهمزة على المصدر ، أي : إخفاءهم (فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، و «كيف» في محل رفع على أنها خبر مقدّم ، والتقدير ، فكيف علمه بأسرارهم إذا توفتهم الملائكة ، أو في محل نصب بفعل محذوف : أي فكيف يصنعون ، أو خبر لكان مقدّرة : أي فكيف يكونون ، والظرف معمول للمقدّر ، قرأ الجمهور (تَوَفَّتْهُمُ) وقرأ الأعمش «توفاهم» وجملة (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) في محل نصب على الحال من فاعل توفتهم أو من مفعوله ، أي : ضاربين وجوههم وضاربين أدبارهم ، وفي الكلام تخويف وتشديد ، والمعنى : أنه إذا تأخر عنهم العذاب فسيكون حالهم هذا ، وهو تصوير لتوفيهم على أقبح حال وأشنعه. وقيل : ذلك عند القتال نصرة من الملائكة لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وقيل : ذلك يوم القيامة ، والأوّل أولى. والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى التوفي المذكور على الصفة المذكورة ، وهو مبتدأ وخبره (بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ) أي : بسبب اتباعهم ما يسخط الله من الكفر والمعاصي ، وقيل : كتمانهم ما في التوراة من نعت نبينا صلىاللهعليهوسلم ، والأوّل أولى لما في الصيغة من العموم (وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ) أي : كرهوا ما يرضاه الله من الإيمان والتوحيد والطاعة (فَأَحْبَطَ) الله (أَعْمالَهُمْ) بهذا السبب ، والمراد
__________________
(١). الحشر : ١١.