على نبوّته. قال القرطبي : قال العلماء : لمّا تمدّح سبحانه بعلم الغيب ، واستأثر به دون خلقه ، كان فيه دليل أنه لا يعلم الغيب أحد سواه ، ثم استثنى من ارتضى من الرسل ، فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم ، وجعله معجزة لهم ، ودلالة صادقة على نبوّتهم ، وليس المنجم ومن ضاهاه ممّن يضرب بالحصى ، وينظر في الكتب ، ويزجر بالطير ، ممّن ارتضاه من رسول فيطلعه على ما يشاء من غيبه ، فهو كافر بالله ، مفتر عليه بحدسه وتخمينه وكذبه. وقال سعيد بن جبير : إلا من ارتضى من رسول هو جبريل ، وفيه بعد. وقيل : المراد بقوله : (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) فإنه يطلعه على بعض غيبه ، وهو ما يتعلّق برسالته كالمعجزة وأحكام التكاليف وجزاء الأعمال وما يبينه من أحوال الآخرة ، لا ما لا يتعلّق برسالته من الغيوب ، كوقت قيام الساعة ونحوه. قال الواحدي : وفي هذا دليل على أنّ من ادّعى أن النجوم تدلّه على ما يكون من حادث فقد كفر بما في القرآن. قال في الكشاف : وفي هذا إبطال للكرامات ؛ لأن الذين تضاف إليهم وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل ، وقد خصّ الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب ، وإبطال للكهانة والتنجيم ؛ لأن أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء ، وأدخله في السّخط. قال الرازي : وعندي لا دلالة في الآية على شيء مما قالوه ؛ إذ لا صيغة عموم في غيبه ، فتحمل على غيب واحد وهو وقت القيامة لأنه واقع بعد قوله : (أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ) الآية. فإن قيل : فما معنى الاستثناء حينئذ؟ قلنا : لعلّه إذا قربت القيامة يظهره ، وكيف لا؟ وقد قال : (يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) (١) فتعلم الملائكة حينئذ قيام القيامة ، أو هو استثناء منقطع ، أي : من ارتضاه من رسول يجعل من بين يديه ، ومن خلفه حفظة ؛ يحفظونه من شرّ مردة الجنّ والإنس. ويدلّ على أنه ليس المراد به لا يطلع أحدا على شيء من المغيبات أنه ثبت كما يقارب التواتر أن شقّا وسطيحا كانا كاهنين ، وقد عرفا بحديث النبيّ صلىاللهعليهوسلم قبل ظهوره ، وكانا مشهورين بهذا العلم عند العرب حتى رجع إليهما كسرى. فثبت أن الله تعالى قد يطلع غير الرسل على شيء من المغيبات ، وأيضا أطبق أهل الملل على أن معبر الرؤيا يخبر عن أمور مستقبلة ، ويكون صادقا فيها ، وأيضا قد نقل السلطان سنجر بن ملك شاه كاهنة من بغداد إلى خراسان ، وسألها عن أمور مستقبلة ، فأخبرته بها ، فوقعت على وفق كلامها. قال : وأخبرني ناس محققون في علم الكلام والحكمة أنها أخبرت عن أمور غائبة بالتفصيل ، فكانت على وفق خبرها. وبالغ أبو البركات في كتاب «التعبير» في شرح حالها وقال : فحصت عن حالها ثلاثين سنة ، فتحققت أنها كانت تخبر عن المغيبات إخبارا مطابقا. وأيضا فإنا نشاهد ذلك في أصحاب الإلهامات الصادقة ، وقد يوجد ذلك في السحرة أيضا ، وقد نرى الأحكام النجومية مطابقة وإن كانت قد تتخلف ، ولو قلنا : إن القرآن يدل على خلاف هذه الأمور المحسوسة ؛ لتطرّق الطعن إلى القرآن ، فيكون التأويل ما ذكرنا ، انتهى كلامه.
قلت : أما قوله : إذ لا صيغة عموم في غيبه ، فباطل ، فإن إضافة المصدر واسم الجنس من صيغ العموم
__________________
(١). الفرقان : ٢٥.