أتأمرهم عقولهم بهذا الكلام المتناقض ، فإن الكاهن هو المفرط في الفطنة والذكاء ، والمجنون : هو ذاهب العقل فضلا عن أن يكون له فطنة وذكاء. قال الواحدي : قال المفسرون : كانت عظماء قريش توصف بالأحلام ، وجاوزوا الحدّ في العناد ، فقالوا ما قالوا ، وهذه الاضطرابات من شيء إلى شيء مع الاستفهام كما هو مدلول «أم» المنقطعة تدل على أن ما تعقبها أشنع ممّا تقدّمها ، وأكثر جرأة وعنادا (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ) أي : اختلق القرآن من جهة نفسه وافتعله ، والتقوّل لا يستعمل إلا في الكذب في الغالب ، وإن كان أصله تكلّف القول ، ومنه اقتال عليه ، ويقال اقتال عليه : بمعنى تحكّم ، ومنه قول الشاعر (١) :
ومنزلة في دار صدق وغبطة |
|
وما اقتال في حكم عليّ طبيب |
ثم أضرب سبحانه عن قولهم : (تَقَوَّلَهُ) وانتقل إلى ما هو أشدّ شناعة عليهم فقال : (بَلْ لا يُؤْمِنُونَ) أي : سبب صدور هذه الأقوال. المتناقضة عنهم كونهم كفارا لا يؤمنون بالله ، ولا يصدقون ما جاء به رسوله صلىاللهعليهوسلم. ثم تحدّاهم سبحانه وألزمهم الحجّة فقال : (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) أي : مثل القرآن في نظمه ، وحسن بيانه ، وبديع أسلوبه (إِنْ كانُوا صادِقِينَ) فيما زعموا من قولهم : إن محمدا صلىاللهعليهوسلم تقوّله وجاء به من جهة نفسه مع أنه كلام عربيّ ، وهم رؤوس العرب وفصحاؤهم والممارسون لجميع الأوضاع العربية من نظم ونثر.
وقد أخرج سعيد بن منصور وهناد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم والبيهقي عن ابن عباس قال : «إن الله ليرفع ذرّية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كانوا دونه في العمل لتقرّ بهم عينه. ثم قرأ : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ)» الآية. وأخرجه البزار وابن مردويه عنه مرفوعا. وأخرج الطبراني وابن مردويه عنه أيضا أن النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : «إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده ، فيقال : إنهم لم يبلغوا درجتك وعملك ، فيقول : يا ربّ قد عملت لي ولهم ، فيؤمر بإلحاقهم به» وقرأ ابن عباس (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ) الآية. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن المؤمنين وأولادهم في الجنة ، وإن المشركين وأولادهم في النار» ثم قرأ رسول الله صلىاللهعليهوسلم (وَالَّذِينَ آمَنُوا) الآية. وإسناده هكذا. قال عبد الله بن أحمد : حدّثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدّثنا محمد بن فضيل ، عن محمد بن عثمان ، عن زاذان ، عن عليّ بن أبي طالب قال : «سألت خديجة النبيّ صلىاللهعليهوسلم عن ولدين ماتا لها في الجاهلية ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : هما في النار ، فلما رأى الكراهة في وجهها قال : لو رأيت مكانهما لأبغضتهما ، قالت : يا رسول الله فولديّ منك. قال : في الجنة ، قال : ثم قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : إن المؤمنين وأولادهم في الجنة ، وإن المشركين وأولادهم في النار ، ثم قرأ : (وَالَّذِينَ آمَنُوا)» الآية. وقال الإمام أحمد في المسند : حدّثنا يزيد ، حدّثنا حماد بن سلمة ، عن عاصم بن أبي النّجود ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة ، فيقول : يا ربّ
__________________
(١). هو كعب بن سعد الغنوي.