وقوله : (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ) بيان للحكمة من الأمر بالتستر والاحتشام.
أى : ذلك التستر والاحتشام والإدناء عليهن من جلابيبهن يجعلهن أدنى وأقرب إلى أن يعرفن ويميزن عن غيرهن من الإماء ، فلا يؤذين من جهة من في قلوبهم مرض.
قال بعض العلماء : وقد يقال إن تأويل الآية على هذا الوجه ، وقصرها على الحرائر ، قد يفهم منه أن الشارع قد أهمل أمر الإماء ، ولم يبال بما ينالهن من الإيذاء ممن ضعف إيمانهم ، مع أن في ذلك من الفتنة ما فيه ، فهلا كان التصون والتستر عاما في جميع النساء؟
والجواب ، أن الإماء بطبيعة عملهن يكثر خروجهن وترددهن في الأسواق ، فإذا كلفن أن يتقنعن ويلبسن الجلباب السابغ كلما خرجن ، كان في ذلك حرج ومشقة عليهن ، وليس كذلك الحرائر فإنهن مأمورات بعدم الخروج من البيوت إلا لضرورة ومع ذلك فإن القرآن الكريم قد نهى عن إيذاء المؤمنين والمؤمنات جميعا ، سواء الحرائر والإماء ، وتوعد المؤذين بالعذاب المهين .. والشارع ـ أيضا ـ لم يحظر على الإماء التستر والتقنع ، ولكنه لم يكلفهن بذلك دفعا للحرج والعسر ، فللأمة أن تلبس الجلباب السابغ متى تيسر لها ذلك .. (١).
هذا ، ويرى الإمام أبو حيان أن الأرجح أن المراد بنساء المؤمنين ، ما يشمل الحرائر والإماء وأن الأمر بالتستر يشمل الجميع ، وأن الحكمة من وراء هذا الأمر بإسدال الجلابيب عليهن ، درء التعرض لهن بسوء من ضعاف الإيمان.
فقد قال ـ رحمهالله ـ : والظاهر أن قوله : (وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ) يشمل الحرائر والإماء ، والفتنة بالإماء أكثر لكثرة تصرفهن ، بخلاف الحرائر ، فيحتاج إخراجهن من عموم النساء إلى دليل واضح .. (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ) لتسترهن بالعفة فلا يتعرض لهن ، ولا يلقين بما يكرهن ، لأن المرأة إذا كانت في غاية التستر والانضمام لم يقدم عليها بخلاف المتبرجة فإنها مطموع فيها (٢).
ويبدو لنا أن هذا الرأى الذي اتجه إليه أبو حيان ـ رحمهالله ـ أولى بالقبول من غيره ، لتمشيه مع شريعة الإسلام التي تدعو جميع النساء إلى التستر والعفاف.
ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية بقوله : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) أى : وكان الله ـ تعالى ـ وما زال واسع المغفرة والرحمة لمن تاب إليه توبة صادقة مما وقع فيه من أخطاء وسيئات.
__________________
(١) تفسير آيات الأحكام ج ٤ ص ٥٣ للشيخ محمد على السائس ـ رحمهالله ـ.
(٢) تفسير البحر المحيط لأبى حيان ج ٧ ص ٢٥٠.