ثم هم بعد كل ذلك (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) أى بخلاء بكل خير ، فهم يحرصون على جمع الغنائم ، وعلى الأموال بكل وسيلة ، ولكنهم لا ينفقون شيئا منها في وجه من وجوه الخير والبر.
قال ابن كثير قوله (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) أى : ليس فيهم خير ، قد جمعوا الجبن والكذب وقلة الخير ، فهم كما قال في أمثالهم الشاعر :
أفي السلم أعيارا جفاء وغلظة |
|
وفي الحرب أمثال النساء العوارك |
أى : هم في حال المسالمة كأنهم الحمير الأعيار. والأعيار جمع عير وهو الحمار. وفي الحرب كأنهم النساء الحيض (١).
ثم بين ـ سبحانه ـ سوء مصيرهم فقال : (أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً).
أى : أولئك المنافقون الموصوفون بما سبق من الصفات السيئة (لَمْ يُؤْمِنُوا) بما يجب الإيمان به إيمانا صادقا ، بل قالوا بألسنتهم قولا تكذبه قلوبهم وأفعالهم (فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ) بأن أبطلها وجعلها هباء منثورا ، وكان ذلك الإحباط على الله ـ سبحانه ـ هينا يسيرا.
وخص ـ سبحانه ـ يسر إحباط عملهم بالذكر مع أن كل شيء يسير عليه ـ تعالى ـ لبيان أن أعمالهم جديرة بالإحباط والإفساد ، لصدورها عن قلوب مريضة ، ونفوس خبيثة.
قال صاحب الكشاف : وهل يثبت للمنافقين عمل حتى يرد عليه الإحباط؟
قلت : لا ، لكنه تعليم لمن عسى يظن أن الإيمان باللسان إيمان ، وإن لم يوطئه القلب ، وان ما يعمل المنافق من الأعمال يجدي عليه ، فبين أن إيمانه ليس بإيمان ، وأن كل عمل يوجد منه باطل ، وفيه بعث على إتقان المكلف أساس أمره وهو الإيمان الصحيح ، وتنبيه على أن الأعمال الكثيرة من غير تصحيح المعرفة كالبناء من غير أساس ، وأنها مما يذهب عند الله هباء منثورا (٢).
ثم ختم ـ سبحانه ـ هذا الحديث الجامع عن صفات المنافقين عند الشدائد والمحن فقال : (يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا).
أى : أن هؤلاء المنافقين بلغ بهم الجبن والخور ، أنهم حتى بعد رحيل الأحزاب عن المدينة ،
__________________
(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٣٩٢.
(٢) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٥٣٠.