والاستفهام في قوله ـ سبحانه ـ : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) للإنكار و (حَسِبَ) من الحسبان بمعنى الظن. وقوله : (يُفْتَنُونَ) من الفتن ، بمعنى الاختبار والامتحان.
يقال : فتنت الذهب بالنار ، أى : أدخلته فيها لتعلم الجيد منه من الخبيث.
وجملة «أن يتركوا» سدت مسد مفعولي حسب ، وجملة «أن يقولوا» في موضع نصب ، على معنى : لأن يقولوا ، وهي متعلقة بقوله : (يُتْرَكُوا). وجملة «وهم لا يفتنون» في موضع الحال من ضمير «يتركوا».
والمعنى : أظن الناس أن يتركوا بدون امتحان ، واختبار ، وابتلاء ، وبدون نزول المصائب بهم ، لأنهم نطقوا بكلمة الإيمان؟ إن ظنهم هذا ظن باطل ، ووهم فاسد ، لأن الإيمان ليس كلمة تقال باللسان فقط ، بل هو عقيدة تكلف صاحبها الكثير من ألوان الابتلاء والاختبار ، عن طريق التعرض لفقد الأموال والأنفس والثمرات ، حتى يتميز قوى الإيمان من ضعيفه.
قال القرطبي : والمراد بالناس قوم من المؤمنين كانوا بمكة ، وكان الكفار من قريش يؤذونهم ويعذبونهم على الإسلام ، كسلمة بن هشام ، وعياش بن ربيعة ، والوليد بن الوليد .. فكانت صدورهم تضيق بذلك ، وربما استنكروا أن يمكن الله الكفار من المؤمنين. قال مجاهد وغيره : فنزلت هذه الآية مسلية ومعلمة أن هذه هي سيرة الله في عباده ، اختبار للمؤمنين وفتنة.
قال ابن عطية : وهذه الآية وإن كانت نزلت بهذا السبب أو ما في معناه من الأقوال ، فهي باقية في أمة محمد صلىاللهعليهوسلم ، موجود حكمها بقية الدهر ...» (١).
وقوله ـ سبحانه ـ : (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) مؤكد لما قبله من أن ظن الناس أن يتركوا بدون ابتلاء ، لقولهم آمنا ، هذا الظن في غير محله ، لأن سنة الله قد اقتضت أن يدفع الناس بعضهم ببعض ، وأن يجعل الكافرين يتصارعون مع المؤمنين ، إلا أن العاقبة في النهاية للمؤمنين.
والمقصود بقوله ـ تعالى ـ : (فَلَيَعْلَمَنَّ) .. إظهار علمه ـ سبحانه ـ ، أو المجازاة على الأعمال.
أى : ولقد فتنا الذين من قبل هؤلاء المؤمنين من أصحابك ـ أيها الرسول الكريم ـ ، (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا.) .. أى فليظهرن الله ـ تعالى ـ في عالم الواقع حال الذين صدقوا في إيمانهم ، من حال الكاذبين منهم ، حتى ينكشف للناس ما هو غائب عن علمهم.
__________________
(١) تفسير القرطبي ج ١٣ ص ٣٠٤.