وقوله : (تُرْهِبُونَ) من الرهبة وهي مخافة مع تحرز واضطراب.
والضمير المجرور ـ وهو قوله (بِهِ) ـ يعود إلى الإعداد المأخوذ من قوله (وَأَعِدُّوا).
أى : أعدوا ما استطعتم من قوة ، حالة كونكم مرهبين بهذا الإعداد عدو الله وعدوكم ، من كل كافر ومشرك ومنحرف عن طريق الحق ، وعلى رأس هؤلاء جميعا. كفار مكة الذين أخرجوكم من دياركم بغير حق ، ويهود المدينة الذين لم يتركوا وسيلة للإضرار بكم إلا فعلوها.
وقوله (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ) معطوف على ما قبله.
أى : ترهبون بهذا الإعداد أعداء معروفين لكم ـ كمشركي مكة ويهود المدينة ، وترهبون به أيضا أعداء آخرين غيرهم أنتم لا تعرفونهم لأنهم يخفون عداوتهم لكم ، ولكن الله ـ تعالى ـ الذي لا يخفى عليه شيء يعلمهم ، وسيحبط أعمالهم.
وقد اختلف المفسرون في المراد بهؤلاء الأعداء الذين عبر الله عنهم بقوله لا تعلمونهم الله يعلمهم ، فمنهم من قال : المراد بهم بنو قريظة ومنهم من قال : المراد بهم أهل فارس والروم.
ورجح ابن جرير أن المراد بهم : كفار الجن .. لأن المؤمنين كانوا عالمين بمداراة بنى قريظة وفارس والروم لهم ... والمعنى ترهبون بذلك الإعداد عدو الله وعدوكم من بنى آدم الذين علمتم عداوتهم ، وترهبون به جنسا آخر من غير بنى آدم لا تعلمون أماكنهم وأحوالهم ، الله يعلمهم دونكم ، لأن بنى آدم لا يرونهم» (١).
ورجح الفخر الرازي أن المراد بهم المنافقون ، قال : لأن المنافق من عادته أن يتربص ظهور الآفات ، ويحتال في إلقاء الإفساد والتفريق بين المسلمين ـ بطرق قد لا تعرف ، فإذا شاهد كون المسلمين في غاية القوة خافهم وترك الأفعال المذمومة» (٢).
ولعل ما رجحه الفخر الرازي هو الأقرب إلى الصواب ، لأن عداوة المنافقين للمؤمنين كثيرا ما تكون خافية ، ويشهد لهذا قوله ـ تعالى ـ في آية أخرى : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) (٣).
ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بالدعوة إلى الإنفاق في سبيله ، وبشر المنفقين بحسن الجزاء فقال : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ).
__________________
(١) راجع تفسير ابن جرير ج ١٠ ص ٣٢ طبعة مصطفى الحلبي ـ الطبعة الثانية سنة ١٩٧٣ ه ، سنة ١٩٥٤ م.
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١٥ ص ١٨٦ المطبعة البهية.
(٣) سورة التوبة الآية ١٠١.