وعبر القرآن في جانب الظلمات بصيغة الجمع ، وفي جانب النور بالإفراد لأن النور واحد ومن نتائجه الكشف والظهور ، وتعدد أسبابه لا يغير حقيقته. أما الظلمة فإنها متنوعة بتنوع أسبابها ، فهناك ظلمة الليل ، وهناك ظلمة السجون ، وهناك ظلمة القبور ، وهناك ظلمة الغمام ، وهي تتغير حقائقها بتغير أسبابها. ثم ثمة إشارة إلى أمر معنوي وهي أن ظلمة الإدراك تتعدد حقائقها ، فهناك ظلمة الانحراف ، وظلمة الأهواء ، والشهوات وطمس القلوب.
والنور واحد (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) فالنور في هذا واحد (١).
ثم بين ـ سبحانه ـ الموقف الجحودى الذي وقفه المشركون من قضية الألوهية فقال (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ).
العدل : المراد به هنا التسوية ، فقال : عدل الشيء بالشيء إذا سواه به والمعنى : أن الله ـ تعالى ـ هو الذي خلق السموات والأرض ، وهو الذي جعل الظلمات والنور ، فهو لذلك من حقه على خلقه أن يعبدوه وحده وأن يخصوه بالحمد والثناء ، ولكن المشركين مع كل هذه الدلائل الدالة على وحدانية الله وقدرته يساوون به غيره في العبادة ، ويشركون معه آلهة أخرى لا تنفع ولا تضر.
وهذه الجملة الكريمة معطوفة على جملة (الْحَمْدُ لِلَّهِ) على معنى أن الله ـ تعالى ـ حقيق بالحمد على ما خلق من نعم ، وأوجد من كائنات ثم الذين كفروا يجحدون كل ذلك فيشركون معه آلهة أخرى.
ويحتمل أن تكون معطوفة على جملة «خلق السموات والأرض» على معنى أن الله ـ تعالى ـ قد خلق الأشياء العظيمة التي لا يقدر عليها أحد سواه ، ثم إن المشركين بعد ذلك يعدلون به جمادا لا يقدر على شيء أصلا.
وجاء العطف «بثم» لإفادة استبعاد واستقباح ما فعله الكافرون. فإنهم رغم البراهين الواضحة والدالة على وحدانية الله وقدرته ، قد نزلوا بمداركهم إلى الحضيض فسووا في العبادة بين الخالق والمخلوق.
قال القرطبي : قال ابن عطية : فثم دالة على قبح فعل الكافرين لأن المعنى أن خلق السموات والأرض قد تقرر ، وآياته قد سطعت ، وإنعامه بذلك قد تبين ، ثم بعد ذلك كله عدلوا بربهم ، فهذا كما تقول : يا فلان أعطيتك وأكرمتك وأحسنت إليك ثم تشتمني! ولو وقع
__________________
(١) مجلة لواء الإسلام العدد ٥ السنة ٢٣ : تفسير سورة الأنعام لفضيلة الأستاذ الشيخ محمد أبى زهرة.