العطف بالواو في هذا ونحوه لم يلزم التوبيخ كلزومه بثم» (١).
ثم ساق القرآن في الآية الثانية دليلا آخر على أن الله ـ تعالى ـ هو المستحق للعبادة والحمد ، وعلى أن يوم القيامة حق ، فتحدث عن أصل خلق الإنسان ، بعد أن تحدث في الآية الأولى عن خلق السموات والأرض فقال :
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ قَضى أَجَلاً ، وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ، ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ).
أى : هو الذي أنشأكم من طين ، ثم تعهدكم برعايته في مراحل خلقكم بعد ذلك ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً ، فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً ، فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ ، فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ).
وفي ذكر خلق الإنسان من طين ، دليل على قدرة الله وعظمته ، لأنه ـ سبحانه ـ هو الذي حول هذا الطين إلى بشر سوى مفكر ، يختار الخير فيهتدى ويختار الشر فيردى ، كما أن فيه تذكيرا له بأصله حتى لا يستكبر أو يطغى ، وحتى يوقن بأن من خلقه من هذا الأصل قادر على أن يعيده إليه.
قال تعالى : (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى).
قال أبو السعود : (وتخصيص خلقهم بالذكر من بين سائر دلائل صحة البعث ، مع أن ما ذكر من خلق السموات والأرض من أوضحها وأظهرها. لما أن محل النزاع بعثهم ، فدلالة بدء خلقهم على ذلك أظهر ، وهم بشئون أنفسهم أعرف ، والتعامي عن الحجة البينة أقبح) (٢).
وقال الجمل : (وإنما نسب هذا الخلق إلى المخاطبين لا إلى آدم ـ عليهالسلام ـ وهو المخلوق منه حقيقة. لتوضيح منهاج القياس ، والمبالغة في إزاحة الاشتباه والالتباس ، مع ما فيه من تحقيق الحق ، والتنبيه على حكمة خفية هي أن كل فرد من أفراد البشر له حظ من إنشائه ـ عليهالسلام ـ منه. حيث لم تكن فطرته البديعة مقصورة على نفسه ، بل كانت أنموذجا منطويا على فطرة سائر آحاد البشر انطواء إجماليا ، فكان خلقه ـ عليهالسلام ـ من الطين خلقا لكل أحد من فروعه) (٣).
__________________
(١) تفسير القرطبي ج ٢ ص ٣٨٧.
(٢) تفسير أبى السعود ـ ج ٢ ص ٧٨.
(٣) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٤.