موسى هذه الخصال فهو أعلى الناس قدرا ومحلا وهو تاليه في العلم والفضل وخليفته في حياته.
ولما بقي بعده كان أحق الناس بخلافته ولو قال له أنت بمنزلة يوشع من موسى لم يعطه من جميع ما ذكرناه إلا الخلافة من بعده فقط ولم يبق بعد هذا أكثر من أن نبين أن هارون لو بقي بعد موسى كان أحق بالخلافة من يوشع.
والذي يدل على ذلك أنه قد ثبت خلافته له في حال حياته بقوله تعالى (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ) وفي ثبوتها له في حال حياته وجوب حصولها له لو بقي بعد وفاته لأن خروجها عنه في حال من الأحوال مع بقائه حط له عن رتبة عالية كان عليها وصرف له عن ولاية عظيمة فوض إليه الأمر فيها وذلك يقتضي الضعة منه وغاية التنفير عنه لأنه خلافة النبوة ليست كالخلافة على قرية ومدينة وإنما هي النيابة عن النبي عليهم السلام في جميع ما كان يتولاه من أمر الأمة والقيام مقامه في إصلاح أمور الكافة من تعليمهم وتهذيبهم ووعظهم وتأديبهم وزجرهم وتخويفهم وتوقيفهم وتعريفهم.
وهذا يقتضي التدين بفرض طاعته وغاية التبجيل والتعظيم له فمتى حط عن هذه المرتبة بعد كونه عليها وأنزل عن درجة الخلافة التي رقى إليها زال ما كان له في النفوس من التبجيل والتعظيم وفي ذلك ما ذكرناه من غاية التنفير.
ومن ذا الذي تكون نفسه ساكنة إلى قبول وعظ خليفة يعلم أو يجوز أنه سينحط عن رتبة الخلافة إلى أن يصير رعية ويهبط عن درجة الإمامة إلى أن يحصل من أحد الأمة كسكونها إلى من لا يجوز ذلك عليه؟
بل كيف يصح من التابعين غاية التبجيل والتعظيم لمن يعلمون من حاله أو يجوزون ذلك من أمره أنه سيتأخر بعد مقامه ويصير لمن كان من أتباعه ومتعلما ممن كان يعلمه ومقتديا بمن كان يقتدى به حتى يسقط ما كان يلزم الناس من فرض طاعته ويصير هو وهم طائعين لمن كان من جملة المطيعين له.