الفريقين إلا ليوحّدون. وقال بعضهم : خلقهم ليفعلوا ، ففعل بعض وترك بعض. وليس فيه حجة لأهل القدر. ه. منه (١). والمراد بأهل القدر : المعتزلة ، القائلون بأن الله تعالى لم يرد الكفر والمعاصي ، وهو باطل ، وسيأتى فى الإشارة بقية تحقيق إن شاء الله.
(ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ) أي : ما خلقتهم ليرزقوا أنفسهم ، أو واحدا من عبادى ، (وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) ، قال ثعلب : أن يطعموا عبادى ، وهو إضافة تخصيص ، كقوله عليهالسلام : «من أكرم مؤمنا فقد أكرمنى ومن آذى مؤمنا فقد آذاني» (٢) ، والحاصل : أنه تعالى بيّن أن شأنه مع عباده متعاليا عن أن يكون كشأن السادات مع عبيدهم ، حيث يملكونهم ليستعينوا بهم فى تحصيل معايشهم ، وتهيئة أرزاقهم ، أي : ما أريد أن أصرفهم فى تحصيل رزقى ولا رزقهم ، بل أتفضل عليهم برزقهم ، وبما يصلحهم ويعيشهم من عندى ، فليشتغلوا بما خلقوا له من عبادتى.
(إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ) أي : يرزق كلّ من يفتقر إلى الرّزق ، وفيه تلويح بأنه غنى عنه ، (ذُو الْقُوَّةِ) ؛ ذو الاقتدار ، (الْمَتِينُ) أي : الشديد الصلب. وقرأ الأعمش «المتين» بالجر (٣) ، نعت للقوة ، أي : ذو القوة المتينة ، وإنما ذكّره لتأول القوة بالاقتدار.
(فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم ، بتعريضها للعذاب ، حيث كذّبوا الرّسول صلىاللهعليهوسلم ، أو : وضعوا التكذيب مكان التصديق ، وهم أهل مكة ، (ذَنُوباً) أي : نصيبا وافرا من العذاب ، (مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ) ؛ مثل عذاب نظائرهم من الأمم المحكية. قال الزجاج : الذنوب فى اللغة : النصيب ، مأخوذ من مقاسمة السقاة الماء بالذنوب ، وهو الدلو العظيم المملوء. (فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) ذلك النّصيب ، فإنه لاحق بهم ، وهذا جواب النّضر وأصحابه حين استعجلوا العذاب.
(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) ، وضع الموصول موضع ضميرهم تسجيلا عليهم بالكفر ، أي : فويل لهم (مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) ، أي : من يوم القيامة ، أو يوم بدر ، والأول أنسب لما فى صدر السورة الآتية.
الإشارة : اعلم أن الحق ـ جل جلاله ـ إنما بعث الرّسل بإظهار الشرائع ، ليحوّشوا العباد إلى الله ، ويدعوهم إليه كافة ، ويأمروهم بالتبتل والانقطاع ، من غير التفات لمن سبق له السعادة أو الشقاء ؛ لأن ذلك من سر القدر ، وغيب المشيئة لا يجوز كشفه فى حالة الدعوة ، فقوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) هذا ما يمكن
__________________
(١) ذكره البخاري فى (التفسير ، سورة «والذاريات»)
(٢) أخرجه الديلمي (مسند الفردوس ح ٥٨٠٦) والطبراني فى الأوسط (ح ٨٦٤٥) من حديث جابر رضي الله عنه بلفظ : «من أكرم أخاه المؤمن فإنما يكرم الله عزوجل». وليس فيه الجزء الأخير.
(٣) انظر «المحتسب فى تبيين وجوه شواذ القراءات» لابن جنى (٢ / ٢٨٩).