(امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) أي : شرحها ووسعها ، (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) أي : مغفرة لذنوبهم ، وأجر عظيم : نعيم الجنان.
الإشارة : على هذه الآية والتي بعدها اعتمد الصوفية فيما دوّنوه من آداب المريد مع الشيخ ، وهى كثيرة أفردت بالتأليف ، وقد جمع شيخنا البوزيدى الحسنى رضي الله عنه كتابا جليلا جمع فيه من الآداب ما لم يوجد فى غيره ، فيجب على كلّ مريد طالب للوصول مطالعته والعمل بما فيه.
والذي يؤخذ من الآية : أنه لا يتقدم بين يدى شيخه بالكلام ، لا سيما إذا سأله أحد ، فمن الفضول القبيح أن يسبق شيخه بالجواب ، فإنّ السائل لا يرضى بجواب غير الشيخ ، مع ما فيه من إظهار علمه ، وإشهار شأنه ، والتقدم على شيخه. ومن ذلك أيضا : ألّا يقطع أمرا دون مشورته ، ما دام تحت الحجرية ، وألّا يتقدم أمامه فى المشي إلا بإذنه ، وأن يغضّ صوته عند حضوره ، بل لا يتكلم إلا أن يأذن له فى الكلام ، ويكون بخفض صوت وتعظيم.
قلت : وما زالت أشياخنا تأمرنا بالتكلم عند المذاكرة ؛ إذ بالكلام تعرف أحوال الرّجال ، وسمعت شيخ شيخنا ، مولاى العربي الدرقاوى الحسنى رضي الله عنه يقول : حكّونا فى المذاكرة ؛ ليظهر العلم ، وكونوا معنا كما قال القائل : حك لى نربل لك ، لا كما قال القائل : سفّج لى نعسل لك. ه. لكن يكون بحثه مع الشيخ على وجه الاسترشاد والاستعلام ، من غير معارضة ولا جدال ، وإلا فالسكوت أسلم.
قال القشيري : (لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) : لا تعملوا فى أمر الدين من ذات أنفسكم شيئا ، وقّفوا حيثما وقفتم ، وافعلوا ما به أمرتم ، أي : اعملوا بالشرع لا بالطبع فى طلب الحق ، وكونوا من أصحاب الاقتداء والاتباع ، لا من أرباب الابتداء أو الابتداع.
وقال فى قوله تعالى : (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ ...) الآية ، يشير إلى أنه من شرط المؤمن : ألا يرى رأيه وعقله واختياره فوق رأى النّبى والشيخ ، ويكون مستسلما لرأيه ، ويحفظ الأدب فى خدمته وصحبته ، (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) أي : لا تخاطبوه كخطاب بعضكم لبعض ، بل خاطبوه بالتعظيم والتبجيل ، ولا تنظروا إليه بالعين التي تنظرون إلى أمثالكم ، وإنه لحسن خلقه قد يلاعبكم ، فلا تنبسطوا معه ، متجاسرين عليه بما يعاشركم من خلقه ، ولا تبدأوه بحديث حتى يفاتحكم ، أن تحبط أعمالكم بسوء أدبكم ، وأنتم لا تشعرون. إنّ الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله وعند شيخه أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى ، أي : انتزع عنها حبّ الشهوات ، وصفّاها من دنس سوء الأخلاق ، وتخلقت بمكارم الأخلاق ، حتى انسلخت من عادات البشرية (١). ه.
__________________
(١) بالمعنى