قلت : (كأيّن) : كلمة مركبة من الكاف و «أىّ» ، بمعنى كم الخبرية ، ومحلها : الرفع بالابتداء ، وقوله : (هى أشد) : نعت لقرية ، و (أهلكناهم) : خبر ، وحذف المضاف ، أي : أهل قرية ، بدليل «أهلكناهم».
يقول الحق جل جلاله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) أي : كثير من أهل قرية (هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ) ؛ مكة ، (الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) أي : تسببوا فى خروجك ، أي : وكم من قوم هم أشدّ قوة من قومك الذين أخرجوك ، (أَهْلَكْناهُمْ) بأنواع العذاب ، (فَلا ناصِرَ لَهُمْ) فلم يكن لهم من ينصرهم ويدفع العذاب عنهم ، فأنتم يا معشر قريش أهون منهم ، وأولى بنزول ما حجل بهم.
(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) أي : حجة واضحة ، وبرهان قاطع ، وهو القرآن المعجز ، وسائر المعجزات ، يعنى : رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) ، وهم أهل مكة ، زين الشيطان شركهم وعداوتهم لله ولرسول صلىاللهعليهوسلم ، (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) الزائغة ، وانهمكوا فى فنون الضلالات ، من غير أن يكون لهم شبهة توهم صحة ما هم عليه ، فضلا عن حجة تدل عليها. وقيل : المراد بمن كان على بينة : المؤمنون فقط ، المتمسكون بأدلة الدين.
قال أبو السعود : وجعلها عبارة عن النّبى عليهالسلام وعن المؤمنين ، لا يساعده النّظم الكريم ، على أن الموازاة بينه صلىاللهعليهوسلم ، وبين من زيّن له سوء عمله مما يأباه منصبه الجليل. والتقدير : أليس الأمر كما ذكر؟ فمن كان مستقرا على حجة ظاهرة ، وبرهان نيّر من مالك أمره ومربّيه ، وهو القرآن ، وسائر الحجج العقلية ، (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) من الشرك وسائر المعاصي ، مع كونه فى نفسه أقبح القبائح. ه.
الإشارة : فى الآية تهديد لمن يؤذى أولياء الله ، ويخرجهم من مواطنهم بالهلاك العاجل أو الآجل. وقوله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) تقدم فى سورة هود الكلام عليها (١). وقال القشيري هنا ، فى تفسير البينة : هى الضياء والحجة والاستبصار بواضح المحجة ، فالعلماء فى ضياء برهانهم ، والعارفون فى ضياء بيانهم ، فهؤلاء بأحكام أدلة الأصول يبصرون ، وهؤلاء بحكم الإلهام والوصول يستبصرون. ه.
ثم عرّف بالجنة ، التي تقدمت فى قوله : (عَرَّفَها لَهُمْ) ، فقال :
(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ
__________________
(١) راجع إشارة الآية ١٧ من سورة هود.