وقال أبو هريرة رضي الله عنه : إنما كان طعامنا مع النّبى صلىاللهعليهوسلم الماء والتمر ، والله ما كان نرى سمراءكم هذه ، وقال أبو موسى : ما كان لباسنا مع النّبى صلىاللهعليهوسلم إلا الصوف.
وروى : أن النّبىّ صلىاللهعليهوسلم دخل على أهل الصّفة ، وهم يرقعون ثيابهم بالأدم ، ما يجدون لها رقاعا ، فقال : «أنتم اليوم خير أم يوم يغدو أحدكم فى حلة ، ويروح فى أخرى ، ويغدا عليه بجفنة (١) ويراح بأخرى ، ويستر بيته كما تستر الكعبة»؟ قالوا : نحن يومئذ خير ، فقال لهم : «بل أنتم اليوم خير» (٢).
وقال عمرو بن العاص (٣) : كنت أتغدى عند عمر الخبز والزيت ، والخبز والخل ، والخبز واللبن ، والخبز والقديد ، وأجلّ ذلك اللحم الغريض (٤) ، وكان يقول : لا تنخلوا الدقيق ، فإنه كله طعام ، ثم قال عمر رضي الله عنه : والله الذي لا إله إلا هو ، لو لا أنى أخاف أن تنقص حسناتى يوم القيامة لشاركتهم فى العيش! ولكنى سمعت الله يقول لقوم : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها). ه (٥).
(فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) أي : الهوان ، وقرىء به ، (بِما كُنْتُمْ) فى الدنيا (تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) ، بغير استحقاق لذلك ، (وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) ، وتخرجون عن طاعة الله عزوجل ، أي : بسبب استكباركم وفسقكم.
الإشارة : مازالت الأكابر من الأولياء تتنكب الحظوظ والشهوات ، مجاهدة لنفوسهم ، وتصفية لقلوبهم ، فإنّ تتبع الشهوات يقسى القلب ، ويكسف نور العقل ، كما قال الشاعر :
إنارة العقل مكسوف بطوع هوى |
|
وعقل عاصى الهوى يزداد تنويرا. |
هذا فى حال سيرهم ، فإذا تحقق وصولهم فلا كلام عليهم ؛ لأنهم يأخذون من الله ، ويتصرفون به فى أمورهم كلها ، فلا حرج عليهم فى نيل ما أنعم الله به عليهم ، حيث أمنوا ضرره ، ومن ذلك : ما روى عن إبراهيم بن أدهم ،
__________________
(١) الجفنة : قصعة الطعام ، والجمع جفان وجفنات.
(٢) عزاه فى كنز العمال (ح ٦٢٢٧) لهناد وأبى نعيم فى الحلية عن الحسن مرسلا. كما ذكره بنحوه (ح ٦٢٢٦) وعزاه للطبرانى والبيهقي ، عن عبد الله بن يزيد الخطمي.
(٣) فى القرطبي : حفص بن أبى العاص.
(٤) الغريض : الطري. انظر اللسان (غرض ، ٥ / ٣٢٤١).
(٥) ذكره بأطول من هنا : القرطبي فى تفسيره (٧ / ٦٢٠٨) ثم قال : «والذي يضبط هذا الباب ويحفظ قانونه : على المرء أن يأكل ما وجد ، طيبا كان أو قفارا ، ولا يتكلف الطيب ويتخذه عادة ، وقد كان النّبى صلىاللهعليهوسلم يشبع إذا وجد ، ويصبر إذا عدم ، ويأكل الحلوى إذا قدر عليها ، ويشرب العسل إذا اتفق له ، ويأكل اللحم إذا تيسر له ، ولا يعتمده أصلا ، ولا يجعله دينا ، ومعيشة النّبى صلىاللهعليهوسلم وسلم معلومة ...» انظر بقيته.