فإذا لم يرض عن نفسه ، وهذبها ، استقامت أحواله ، وكان من المحسنين ، الذين قال الله ـ تعالى ـ فى شأنهم :
(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤))
يقول الحق جل جلاله : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) أي : جمعوا بين التوحيد ، الذي هو خاصة العلم ، والاستقامة فى الظاهر ، التي هى منتهى العمل ، (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من لحوق مكروه ، (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) على فوات مرغوب ، و «ثم» للدلالة على تراخى رتبة العمل ، وتوقف الاعتداد به على التوحيد. ودخلت الفاء لتضمن الموصول معنى الشرط ، والتعبير بالمضارع للدلالة على دوام نفى الحزن عنهم ، (أُولئِكَ) الموصوفون بما ذكر من الاسمين الجليلين ، (أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها) : حال من أصحاب الجنة ، والعامل : معنى الإشارة ، (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) من الأعمال الصالحة ، و «جزاء» مصدر لمحذوف ، أي : جوزوا جزاء ، أو بمعنى ما تقدم ، فإن قوله : (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ) فى معنى : جزيناهم.
الإشارة : مضى تفسير الاستقامة ، وأنّ من درج على الإيمان والاستقامة حظى بكلّ كرامة ، ووصل إلى جزيل السلامة ، وقيل : السين فى الاستقامة سين الطلب ، وأنّ المستقيم يتوسل إلى الله ـ تعالى ـ فى أن يقيمه على الحق ، ويثبته على الصدق. ه.
قال الورتجبي : ما قال القوم هذا القول ـ أي : «ربنا الله» ـ حتى شاهدوه بقلوبهم ، وعقولهم ، وأرواحهم ، وأسرارهم ، مشاهدة الحق سبحانه ، فإذا رأوه يقولون : هذا الهلال ، وصاحوا ، وضحكوا ، فهذا القول منهم بعد كشف مشاهده الحق لهم ، فلما رأوه أحبوه وعرفوه ، وشربوا من بحار وصاله ، حتى تمكنوا ، فاستقاموا بقوتها فى موازاة رؤية أنوار الأزل والآباد ، واستقاموا فى مراد الله منهم ، وأداء حقوق عبوديته ، فلا يبقى عليهم خوف الحجاب ، ولا حزن العتاب ، قال الله تعالى : (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ). ه.
ثم وصّى بالربوبية الصغرى بعد الكبرى ، فقال :
(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ