البعث وما يتبعه من جزائهم. ومقصدهم بهذا الإقرار : التوسل بذلك إلى ما علّقوا به أطماعهم الفارغة من الرّجوع إلى الدنيا ، كما صرحوا به فى قولهم : (فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ) أي : نوع من الخروج ، سريع أو بطيء ، (مِنْ سَبِيلٍ) أو : لا سبيل إليه قط. وهذا كلام من غلب عليه اليأس ، وإنما يقولون ذلك تحيّرا ، مع نوع استبعاد واستشعار يأس منه ، ولذلك أجيبوا بقوله :
(ذلِكُمْ) أي : ذلكم الذي أنتم فيه من العذاب ، وألّا سبيل إلى الخروج ، (بِأَنَّهُ) أي : بسبب أن الشأن (إِذا دُعِيَ اللهُ) فى الدنيا ، أي : عبد (وَحْدَهُ) منفردا (كَفَرْتُمْ) بتوحيده ، (وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا) بالإشراك وتسارعوا فيه ، أي : كنتم فى الدنيا تكفرون بالإيمان ، وتسارعون إلى الشرك. قيل : والتعبير بالاستقبال ، إشارة إلى أنهم لو ردوا لعادوا ، وحيث كان حالكم كذلك ، (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ) الذي لا يحكم إلا بالحق ، ولا يقضى إلا بما تقتضيه حكمته ، (الْعَلِيِ) شأنه ، فلا يردّ قضاؤه ، أو : فالحكم بعذابكم وتخليدكم فى النّار لله ؛ لا لتلك الأصنام التي عبدتموها معه ، (الْكَبِيرِ) : العظيم سلطانه ، فلا يحدّ جزاؤه. وقيل : إنّ الحرورية (١) أخذوا قولهم : لا حكم إلا لله ، من هذه الآية. قال علىّ رضي الله عنه لمّا سمع مقالتهم : كلمة حق أريد بها باطل. ه.
الإشارة : إنّ الذي كفروا بطريق الخصوص ، وأنكروا وجود التربية ، حتى ماتوا محجوبين عن الله ، وبعثوا كذلك ، ينادون يوم القيامة بلسان الحال : لمقت الله لكم اليوم ـ حيث سقطتم عن درجات المقربين ـ أكبر من مقتكم أنفسكم ، حيث حرمتموها معرفة العيان ومقام الإحسان ، حين كنتم تدعون إلى تربية الإيمان ، وتحقيق الإيقان ، على ألسنة شيوخ التربية ، فتكفرون وتقولون : انقطعت التربية منذ زمان ، ثم يطلبون الخروج من عالم الآخرة إلى عالم الدنيا ، ليحصلوا المعرفة التي فاتتهم ، فيقال لهم : هيهات ، قد فات الإبّان (٢) ، «الصيف ضيعت اللبن» (٣). فامكثوا فى حجابكم ، ذلكم بأنه إذا دعى الله وحده ، وأن لا موجود سواه ، كفرتم بإنكاركم سبيله ، وهى طريق التجريد والتربية ، وإن يشرك به بالتعمق فى الأسباب ، والمكث فيها ، تؤمنوا. والحاصل : أنهم كانوا ينكرون طريق التجريد ، ويؤمنون بطريق الأسباب ، فالحكم لله العلى الكبير ، فيرفع من يشاء ، ويضع من يشاء بعلوه وكبير شأنه.
__________________
(١) الحرورية : طائفة من الخوارج ، تنسب إلى «حرور» ، اسم قرية بالكوفة. انظر اللسان (حرر ٢ / ٨٣١).
(٢) إبان كل شىء : وقته وحينه الذي يكون فيه. انظر اللسان (ابن ١ / ١٢).
(٣) هذا مثل. والتاء من «ضيعت» مكسورة فى كل حال ، إذا خوطب به المذكر والمؤنث والاثنان والجمع ، لأن المثل فى الأصل خوطبت به امرأة ، وهى دختنوس بنت لقيط بن زرارة ، كانت تحت عمرو بن عمرو بن عدس ، وكان شيخا كبيرا ، ففركته (كرهته) فطلقها ، ثم تزوجها فتى جميل الوجه ، وأجدبت ، فبعثت إلى عمرو تطلب منه حلوبة ، فقال عمرو : «فى الصيف ضيعت اللبن» ، فلما رجع الرّسول ، وقال لها ما قال عمرو ، ضربت يدها على منكب زوجها ، وقالت : «هذا ومذقه خير» تعنى أن هذا الزوج مع عدم اللبن خير من عمرو ، فذهبت كلماتهما مثلا. انظر مجمع الأمثال للميدانى (٢ / ٤٣٤).