انتفاء العلم بالشيء تارة يكون للجهل بالطريق الموصل إليه ، وتارة يكون لاستحالة العلم به ، لأنه في نفسه محال لا يستقيم تعلّق العلم به. وما نحن فيه من هذا القبيل.
فإن قيل : لم قال تعالى (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) (١٢) وهو أعلم بذلك في الأزل؟
قلنا : معناه لنعلم ذلك علم المشاهدة ، كما علمناه علم الغيب.
فإن قيل : لم قال تعالى (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ) [الآية ١٩] ولم يقل «واحدكم»؟
قلنا : لأنه أراد فردا منهم أيّهم كان ، ولو قال «واحدكم» لدلّ على بعث رئيسهم ومقدّمهم ، فإن العرب تقول : رأيت أحد القوم : أي فردا منهم ، ولا تقول : رأيت واحدا لقوم إلا إذا أرادت المقدّم المعظّم.
فإن قيل : لم جيء بسين الاستقبال في الفعل الأول دون الآخرين في قوله تعالى (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ) [الآية ٢٢].
قلنا : أريد دخول الفعلين الآخرين في حكم الأوّل بمقتضى العطف ، فاقتصر على ذكر السين في الأول إيجازا ، كما يقال : زيد قد يخرج ويركب ، أي وقد يركب.
فإن قيل : لم دخلت الواو في الجملة الثالثة دون الأوليين ، وفي قوله تعالى : (وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) [الآية ٢٢].
قلنا : قال بعض المفسّرين : هي واو الثمانية ، وقد ذكرنا مثلها في آخر سورة التوبة. وقال الزجّاج : دخول هذه الواو وخروجها سواء في صفة النكرة ، وجاء القرآن بهما. وقال غيره : الواو مرادة في الجملتين الأوليين ، وإنما حذفت فيهما تخفيفا ، وأتي بها في الجملة الثالثة دلالة على إرادتها فيهما ؛ ويردّ على هذا القول : أنه لو كان كذلك لكانت مذكورة في الجملة الأولى ، محذوفة في الجملة الثانية والثالثة ، ليدل ذكرها أوّلا على حذفها بعد ذلك كما سبق في سين الاستقبال. وقال الزمخشري وغيره : هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة ، كما تدخل على الصفة الواقعة حالا من المعرفة ، تقول : جاءني رجل ومعه آخر ، ومررت بزيد وفي يده سيف ، ومنه قوله تعالى (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) (٤) [الحجر] ، وفائدتها توكيد اتصال الصفة بالموصوف ، والدلالة على أنّ اتّصافه