ومعاذ الله من هذا لأن كل ما سبق في طبقته فما يؤمن أن يأتي من مماثل بمثله ضرورة فلا بد لهم من هذه الخطة أو من المصير إلى قولنا إن الله تعالى منع من معارضته فقط ، وأيضا فلو كان إعجازه في أنه في أعلى درج البلاغة المعهودة لوجب أن يكون ذلك للآية ولما هو أقل من الآية ، وهذا ينقض قولهم إن المعجز منه ثلاث آيات لا أقل. فإن قالوا فقولوا أنتم هل القرآن موصوف بأنه في أعلى درج البلاغة أم لا؟ قلنا وبالله تعالى التوفيق : إن كنتم تريدون أن الله تعالى قد بلغ به ما أراد به ، فنعم هو بهذا المعنى في الغاية التي لا شيء أبلغ منها. وإن كنتم تريدون هل هو في أعلى درج بلاغة المخلوقين فلا ، لأنه ليس من نوع كلام المخلوقين لا من أعلاه ولا من أدناه ولا من أوسطه ، وبرهان هذا أن إنسانا لو أدخل في رسالة أو خطة أو تأليف أو موعظة حروف الهجاء المقطعة لكان خارجا عن البلاغة المعهودة جملة بلا شك. فصح أنه ليس من نوع بلاغة الناس أصلا ، وأن الله تعالى تولّى منع الخلق من مثله وكساه الإعجاز وسلبه جميع كلام الخلق.
برهان ذلك أن الله تعالى حكى عن قوم من أهل النار أنهم يقولون إذا سئلوا عن سبب دخولهم النار : (قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) [سورة المدثر : ٤٣ ٤٧].
وحكى تعالى عن كافر قال : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) [سورة المدثر : ٢٤ ـ ٢٦].
وحكى عن آخرين أنهم قالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) [سورة الإسراء : ٩٠ ـ ٩٣].
وكان هذا كله إذا قاله غير الله تعالى غير معجز بلا خلاف ، إذ لم يقل أحد من أهل الإسلام إن كلام غير الله تعالى معجز ، لكن لما قاله الله تعالى وجعله كلاما له أصاره معجزا ، ومنع من مماثلته. وهذا برهان كاف لا يحتاج إلى غيره والحمد لله.
__________________
فولّاه رئاسة خزانة الحكمة ببغداد. توفي سنة ٢١٥ ه. انظر الأعلام للزركلي (٣ / ٢٢١).