قال أبو محمد : وهذا جور ناهيك به لوجوه :
أوله : أنه محاباة مجردة له عليه الصلاة والسلام على غيره وهلّا فعل ذلك بغيره وعجّل راحتهم من الدنيا ..؟
وثانيها : أن هذا قول كذب بحت وذلك أن المحن في العالم معروفة وهي إما في الجسم بالعلل وإما في المال بالإتلاف وإما في النفوس بالخوف والهوان ، والهمّ بالأهل والأجنّة والقطع دون الأمل لا محنة في العالم تخرج عن هذه الوجوه إلا المحنة في الدّين فقط نعوذ بالله من ذلك فأما المحنة في الجسم فكذبوا وما مات عليهالسلام إلا سليم الأعضاء سويها معافى من مثل محنة أيوب عليهالسلام وسائر أهل البلاء نعوذ بالله منه وأمّا في المال فما شغله الله عزوجل منه بما يقتضي محنة في فضوله ولا أحوجه إلى أحد بل أقامه على حدّ الغنى بالوقوف ووفقه لتنفيذ الفضل فيما يقربه من ربه عزوجل وأما النفس فأيّ محنة لمن قال الله عزوجل له (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [سورة المائدة : ٦٧] ولمن رفع له ذكره وضمن له إظهار دينه على الدين كله ولو كره أعداؤه وجعل شانيه الأبتر ، وأعزه بالنّصر على كل عدوّ فأي خوف وأيّ هوان يتوقعه عليهالسلام؟ وأما أهله وأحبته فاخترم بعضا فآجره فيهم كإبراهيم ابنه وخديجة وحمزة وجعفر وزينب وأم كلثوم ورقية بناته رضي الله عنهم وأقر عينه ببقاء بعضهم وصلاحه كعائشة وسائر أمهات المؤمنين وفاطمة ابنته وعلي والعباس والحسن والحسين وأولاد العباس وعبد الله بن جعفر وأبي سفيان بن الحارث رضي الله عن جميعهم فأيّ محنة هاهنا؟ أليس قد أعاذه الله تعالى من مثل محنة خبيب بن عدي وسمية أم عمّار رضي الله عنه .. أليس من قتل من الأنبياء عليهمالسلام ومن نشر بالمنشار وأحرق بالنيران أعظم محنة؟! ومن خالفه قومه فلم يتبعه منهم إلا اليسير وعذب الجمهور كهود وصالح ولوط وشعيب وغيرهم أعظم محنة؟ وهل هذه إلا مكابرة وحماقة وقحة؟ وأي محنة تكون لمن أوجب الله عزوجل على الجن والإنس طاعته وأكرمه برسالته وأمّنه من كل الناس وأكبّ عدوه لوجهه وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وهل هذه إلا نعم وخصائص وفضائل وكرامات ومحاباة مجردة له على جميع الإنس والجن؟ وهل استحق عليهالسلام هذا قط على ربه تعالى حتى ابتدأه بهذه النعمة الجليلة وقد تحنّث قبله زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى العدوي ، وقس بن ساعدة الإيادي وغيرهما؟ فما أكرموا بشيء من هذا ولكن نوك (١) المعتزلة ليس عليه قياس.
__________________
(١) النّوك : الحمق (المعجم الوسيط : ص ٩٦٤).