فوق والتي تلي أقدامنا إلينا مملوءة جنودا وملائكة : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدثر : ٣١]. وقد تبرهن في العلم الطبيعي أنه لا يجوز أن يكون عالم خارج الكرة التاسعة ، وأن لا خلاء البتة وأن كل موجود للبارئ تعالى فهو داخل في جوف هذه الكرة. فأما الأجسام فهي تستحيل عن العناصر الأربعة فكل ما تحت مقعر فلك القمر مستحيل متغير ، والعناصر يستحيل بعضها إلى بعض وما عدا ذلك فهو جواهر من حوادث أخر ، والنفس من جنس تلك الجواهر لا من العناصر فهي روحانية محضة وهي نفس صغيرة موازية لنفس العالم الكبير.
وقد تكرر منا أن الإنسان موجود على مضاهاة العالم ، فالنفس جوهر روحاني لطيف ولا يجب أن ينكر المنكر ذلك وهو يشاهد شعاع الشمس وروحانيته وبساطته ، حتى أن قرصها يكون بالمغرب وشعاعها بالمشرق فما هو إلا أن تغيب خلف جبل فينقطع الشعاع الذي بالمشرق يلازمان. ولو كان جسما لما انقطع ذلك آحاد السنين ، وكذلك إذا أخذت مرآة وعكست بها الشعاع انعكس ذلك إلى حيث شئت ، ثم تقطعه عن موضع عكسته إليه لا في زمان ، وجوهر الشعاع بالإضافة إلى جوهر النفس كثيف فليس في العالم موضع بيت ولا زاوية إلا وهو معمور بما لا يعلمه إلا الله تعالى. ولذلك أمر النبيصلىاللهعليهوسلم بالستر في الخلوة وهو أن يجامع الرجل امرأته عريانين ، وقد قال تعالى : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق : ١٨]. وقال تعالى في الإنسان : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق : ١٦]. فالأرواح مشحون بها العالم. وإنما نبهنا على ذلك تنبيها أن للنفس شبه عنصر تكون منه يناسب لطاقتها فإذا تأتت الروح الحيوانية أوجد الله تعالى نفسا جوهرا لطيفا روحانيا عالما بالقوة في طبائعه أن يعلم الأمور ويقل بارئه ، فيتشبث بهذا الجسم ويشتغل به وينشأ معه حتى لا يعرف سواه ويشتد إلفه وحرصه عليه حكمة من الله تعالى فيحرك الأجسام. وذلك كمثل الحديد فإنه يكون جمادا لا يتحرك فإذا انضاف إليه أمر يقوي طبيعته وخاصيته قوي الأثر فيه ، ويأتي المحل لفعل النفس الكلية فحركت الحديد فجرى ودار وتراه كالحي فلا يزال على تلك الحال حتى ينخرم ذلك الفطام وتزول تلك الملائكة ، فلا تزال هذه النفس مع هذا الجسم وتمدها الملائكة من خارج بنطق على أنه لا يعرفه إلا العلماء ، وقد أخبر الشارع عليهالسلام : أن الخير من الملائكة والشر من الشيطان فلا بدّ من أثر يحصل على الملائكة.
ولما كانت النفس روحانية قبلت عن الروحاني وتأثرت عنه. فلو لا العقول المعبر عنها بالملائكة الممدة للنفوس من خارج لما عقلت معقولا البتة فإن النفس عالمة بالقوة فقط والملائكة تخرج ما في القوة إلى الفعل حتى يصيرها عالمة بالفعل فأعلى طبقة في الاستمداد الأنبياء صلىاللهعليهوسلم ، ثم من يليهم. وذلك بحسب تهذيب النفس والعكوف على هذه الجنبة وهذا هو المعنى بقوله تعالى : (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) [المائدة : ١١٠]. وقال تعالى في الأولياء : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) [المجادلة : ٢٢]. الناس في الأخذ من الملك تفاوتا لا نهاية له ومن الناس من لا يأخذ شيئا وهم المرادون بقوله تعالى : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) [الأعراف : ١٧٩ والفرقان : ٤٤]. وإنما أوجد الله سبحانه النفس لامتحان الآدمي ، ولو