بسم الله الرّحمن الرّحيم
الكشف والتبيين
في غرور الخلق أجمعين
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم آمين! وبه ثقتي.
الحمد لله وحده ، وصلى الله على خير خلقه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
وبعد : فهذا كتاب الكشف والتبيين في غرور الخلق أجمعين.
اعلم أن الخلق قسمان : حيوان وغير حيوان. والحيوان قسمان : مكلف وغير مكلف ؛ فالمكلف من خاطبه الله بالعبادة ، وأمره بها ، ووعده بالثواب عليها ، ونهاه عن المعاصي ، وحذره العقوبة ؛ وغير المكلف من لم يخاطبه بذلك. ثم المكلف قسمان : مؤمن وكافر. والمؤمن قسمان : طائع وعاص ؛ وكل واحد من الطائعين والعاصين ينقسم إلى قسمين : عالم وجاهل.
ثم رأيت الغرور لازما لجميع المكلفين والمؤمنين والكافرين إلا من عصمه الله رب العالمين. وأنا إن شاء الله تعالى أكشف عن غرورهم ، وأبين الحجة فيه ، وأوضحه غاية الإيضاح ، وأبينه غاية البيان ، بأوجز ما يكون من العبارة ، وأبدع ما يكون من الإشارة ؛ فأقول وما توفيقي إلا بالله :
واعلم أن المغرورين من الخلق ما عدا الكافرين أربعة أصناف : صنف من العلماء ، وصنف من العباد ، وصنف من أرباب الأموال ، وصنف من المتصوفة. فأول ما نبدأ به غرور الكفار ، وهم في غرورهم قسمان : منهم من غرته الحياة الدنيا ، ومنهم من غره بالله الغرور. فأما الذين غرتهم الحياة الدنيا فهم الذين قالوا : النقد خير من النسيئة ، ولذات الدنيا يقين ولذات الآخرة شك ، ولا يترك اليقين بالشك ؛ وهذا قياس فاسد ، وهو قياس إبليس لعنه الله في قوله أنا خير منه ، فظن أن الخيرية في السبب.
وعلاج هذا الغرور شيئان إما بتصديق وهو الإيمان ، وإما ببرهان. أما التصديق فهو أن يصدق الله تعالى في قوله : (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى) [القصص : ٦٠] وقوله تعالى : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران : ١٨٥ ، الحديد : ٢٠] وتصديق الرسول فيما جاء به. وأما البرهان فهو أن يعرف وجه فساد قياسه أن قوله : «الدنيا نقد والآخرة نسيئة» مقدمة صحيحة ، وأما قوله : «النقد خير من النسيئة» فهو محل التلبيس ؛ وليس الأمر كذلك ، بل إن كان النقد مثل النسيئة في المقدار والمقصود فهو خير ، وإن كان أقل منها فالنسيئة خير منه ؛ ومعلوم أن الآخرة أبدية والدنيا غير أبدية. وأما قولهم : «لذات الدنيا يقين ولذات الآخرة شك» فهو أيضا باطل ؛