فإن قيل : فلم لا ترى النفس فإن في رؤيتها ما يدل على صحة وجودها وهلا تخيلناها.
قلنا : فهاتان مسألتان أحدهما لم لا ترى ، والثانية لم لا تتخيل. فالجواب عن أحدهما وهي لم لا ترى بثلاثة أجوبة :
أحدها : أن كل موجود ليس من شرطه أن يرى. إذ صحة وجود الموجود لا تستدعي أن يكون مرئيا فإن الأحوال اللازمة للشيء إما أن تكون ذاتية وإما أن تكون عرضية ، والموجود من الأحوال اللازمة ذاتي وكونه مرئيا عرضي له إذ يثبت وجود الموجود مع عدم من يراه ، ومع ذلك يثبت الموجود ولا يبطل وجود عدم الرائي له. والدليل على ذلك وجود البارئ سبحانه وتعالى في الأزل لا إلى نهاية ولم ير حتى الآن وذلك لا يبطل وجوده. نعم يستدعي الوجود أن يثبت له ما يصحح وجوده والشيء قد يستدل عليه إما بقضايا عقلية وإما بأثر يثبت للحس فيقضي عليه. وقد شاهدنا آثار النفس ووجود أنفسنا بالضرورة ، وعلمنا أن في أجسامنا معنى يزيد عليها بالضرورة إذ يبقى الجسم ولا روح له ويكون الجنين تاما في الشهر الرابع ولا روح له.
الجواب الثاني : أن المرئي يجب أن يكون من الرائي في جهة وعلى مسافة ويكون قابلا للألوان إذ هي العلة في إظهار المبصرات. وإننا قلنا إن النفس لا تقبل الألوان إذ اللون مركب من أمور تجتمع.
الجواب الثالث : أن المرئي لا بدّ أن يكون في حيز ، وسنقيم الدليل على أن القوة العقلية لا حيز لها.
الفصل الثاني في كون النفس جوهرا
النفس جوهر قائم بنفسه ولا بدّ من كشف هذه العبارة. فنقول : النفس تطلق على جهات فيقال للقوة الغازية نفس وكذلك المنمية وكذلك النباتية. وهذه أنفس وليست المراد في هذا الغرض. فأول النفوس النباتية ثم الغازية ثم النامية ثم الحيوانية. وهذه أول مراتب خروج فعل النفس من القوة إلى الفعل ، فالنفوس الحيوانية هي كمال جسم طبيعي بها يحس ويتحرك ، والبهيمة والإنسان يشتركان في هذه النفس ، وهذه النفس ، هي حرارة مودعة في النطفة ، ودم الطمث المجتمع في الرحم لها كالقالب ، فإذا أسقط المني على بقية دم يجتمع في الرحم انتشر عليه كالنتق في اللبن وعقده بحره فسخن وامتد بالحر من خارج وتزايدت الحرارة الغريزية. فأول ما يتكون القلب ثم تنتشر من العروق والعصب وينتقش ذلك الجزء فيه إلى أن تكمل أعضاء الجنين ، ومن يوم تسقط النطفة في الرحم إلى يوم خروجها مقدار ما تقطع الشمس ثلاثة أرباع الفلك. والنطفة تستمد الحر من جهة الأم والأم من الأغذية ، فإذا دخلت في الشهر التاسع صارت كالمفتول الخشن المشرب بالزيت الصافي في شدة الملاءمة والتأتي للاشتعال. وهذا مثل بل الأمر أغمض وأدق.
فالنفس الحيوانية لباب الغذاء والنباتات والعناصر ، فإذا بلغت هذه الرتبة استحقت من الجود الإلهي نفسا. فحينئذ يوجد الرب تعالى قوة من عالم الأمر كما قال تعالى : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء : ٨٥]. وقال تعالى : (رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) [الشورى : ٥٢]. وقال تعالى : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [الحجر : ٢٩]. والعالم من محدب الفلك التاسع من الصفحة التي تلي جهة