أحدهما : أنها ترجع إلى يوسف ، قاله الجمهور. قال أبو صالح عن ابن عباس : كان سجودهم كهيئة الرّكوع كما يفعل الأعاجم. وقال الحسن : أمرهم الله بالسجود لتأويل الرّؤيا. قال ابن الأنباري : سجدوا له على جهة التّحيّة لا على معنى العبادة ، وكان أهل ذلك الدّهر يحيّي بعضهم بعضا بالسجود والانحناء ، فحظّره رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فروى أنس بن مالك قال :
(٨٢٢) «قال رجل : يا رسول الله! أحدنا يلقى صديقه ، أينحني له؟ قال : لا».
والثاني : أنها ترجع إلى الله ، فالمعنى : وخرّوا لله سجّدا ، رواه عطاء ، والضّحّاك عن ابن عباس ، فيكون المعنى : أنهم سجدوا شكرا لله إذ جمع بينهم وبين يوسف.
قوله تعالى : (هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ) أي : تصديق ما رأيت ، وكان قد رآهم في المنام يسجدون له ، فأراه الله ذلك في اليقظة. واختلفوا فيما بين رؤياه وتأويلها على سبعة أقوال : أحدها : أربعون سنة ، قاله سلمان الفارسيّ وعبد الله بن شدّاد بن الهاد ومقاتل. والثاني : اثنتان وعشرون سنة ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثالث : ثمانون سنة ، قاله الحسن والفضيل بن عياض. والرابع : ستّ وثلاثون سنة ، قاله سعيد بن جبير وعكرمة والسّدّيّ. والخامس : خمس وثلاثون سنة ، قاله قتادة. والسادس : سبعون سنة ، قاله عبد الله بن شوذب. والسابع : ثماني عشرة سنة ، قاله ابن إسحاق.
قوله تعالى : (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي) أي : إليّ. والبدو : البسط من الأرض. وقال ابن عباس : البدو : البادية ، وكانوا أهل عمود وماشية.
قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) أي : أفسد بيننا. قال أبو عبيدة : يقال : نزغ بينهم ينزغ ، أي : أفسد وهيّج ، وبعضهم يكسر زاي ينزغ. (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ) أي : عالم بدقائق الأمور. وقد شرحنا معنى «اللطيف» في سورة (الأنعام) (١).
فإن قيل : قد توالت على يوسف نعم جمّة ، فما السّرّ في اقتصاره على ذكر السّجن ، وهلّا ذكر الجبّ ، وهو أصعب؟ فالجواب من وجوه : أحدها : أنه ترك ذكر الجبّ تكرّما ، لئلّا يذكّر إخوته صنيعهم ، وقد قال (لا تثريب عليكم اليوم). والثاني : أنه خرج من الجبّ إلى الرّقّ ، ومن السّجن إلى الملك ، فكانت هذه النّعمة أوفى. والثالث : أنّ طول لبثه في السّجن كان عقوبة له ، بخلاف الجبّ ، فشكر الله على عفوه.
____________________________________
(٨٢٢) أخرجه الترمذي ٢٧٢٨ ، وابن ماجة ٣٧٠٢ ، وأبو يعلى ٤٢٨٩ ، والطحاوي في «المعاني» ١ / ٢٨١ والبيهقي في «السنن» ٧ / ١٠٠ من طريق حنظلة بن عبد الله عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رجل : يا رسول الله الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال : لا ، قال : أفيلتزمه ويقبله؟ قال : لا ، قال : أفيأخذ بيده ويصافحه؟ قال : نعم». وإسناده ضعيف لضعف حنظلة ، قال الذهبي في «الميزان» ١ / ٦٢١ : قال يحيى القطان : تركته عمدا ، كان قد اختلط ، وضعفه أحمد ، وقال : منكر الحديث ، يحدث بأعاجيب ، وقال ابن معين : ليس بشيء. وضعف هذا الحديث البيهقي عقب روايته ، وكذا ضعفه أحمد كما في «تخريج الإحياء» ٢ / ٢٠٤. وهو ضعيف بهذا اللفظ ، وبهذا الإسناد ، فقد وردت أحاديث مرفوعة وموقوفة في جواز المعانقة والالتزام. وأما سياق المصنف ابن الجوزي : فله طرق وشواهد تقويه.
__________________
(١) في سورة الأنعام : ١٠٣.