أحدها : أنه يوسف (١) ، وهو من أغمض ما يأتي من الكلام أن تحكى عن شخص شيئا ثم تصله بالحكاية عن آخر ، ونظير هذا قوله : (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) هذا قول الملأ (فَما ذا تَأْمُرُونَ) (٢) قول فرعون. ومثله : (وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً) هذا قول بلقيس (وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) (٣) قول الله عزوجل. ومثله : (مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) هذا قول الكفّار ، فقالت الملائكة : (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ) (٤) وإنما يجوز مثل هذا في الكلام ، لظهور الدّلالة على المعنى. واختلفوا ، أين قال يوسف هذا؟ على قولين :
أحدهما : أنه لمّا رجع السّاقي إلى يوسف فأخبره وهو في السّجن بجواب امرأة العزيز والنّسوة للملك ، قال حينئذ : «ذلك ليعلم» ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال ابن جريج.
والثاني : أنه قاله بعد حضوره مجلس الملك ، رواه عطاء عن ابن عباس.
قوله تعالى : (ذلِكَ لِيَعْلَمَ) أي : ذلك الذي فعلت من ردّي رسول الملك ، ليعلم.
واختلفوا في المشار إليه بقوله : «ليعلم» وقوله : «لم أخنه» على أربعة أقوال :
أحدها : أنه العزيز ، والمعنى : ليعلم العزيز أني لم أخنه في امرأته (بِالْغَيْبِ) أي : إذا غاب عني ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، والجمهور.
والثاني : أنّ المشار إليه بقوله : «ليعلم» الملك ، والمشار إليه بقوله : «لم أخنه» العزيز ، والمعنى : ليعلم الملك أني لم أخن العزيز في أهله بالغيب ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس.
والثالث : أنّ المشار إليه بالشّيئين ، الملك ، فالمعنى : ليعلم الملك أني لم أخنه ، يعني الملك أيضا ، بالغيب. وفي وجه خيانة الملك في ذلك قولان : أحدهما : لكون العزيز وزيره ، فالمعنى : لم أخنه في امرأة وزيره ، قاله ابن الأنباري. والثاني : لم أخنه في بنت أخنه ، وكانت أزليخا بنت أخت الملك ، قاله أبو سليمان الدّمشقي.
والرابع : أنّ المشار إليه بقوله : «ليعلم» الله عزوجل ، فالمعنى : ليعلم الله أني لم أخنه ، روي عن مجاهد ، قال ابن الأنباري : نسب العلم إلى الله في الظاهر ، وهو في المعنى للمخلوقين ، كقوله : (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ) (٥).
فإن قيل : إن كان يوسف قال هذا في مجلس الملك ، فكيف قال : «ليعلم» ولم يقل : لتعلم ، وهو يخاطبه؟ فالجواب : أنّا إن قلنا : إنه كان حاضرا عند الملك ، فإنما آثر الخطاب بالياء توقيرا للملك ، كما يقول الرجل للوزير : إن رأى الوزير أن يوقّع في قصّتي. وإن قلنا : إنه كان غائبا ، فلا وجه لدخول التاء ، وكذلك إن قلنا : إنه عنى العزيز ، والعزيز غائب عن مجلس الملك حينئذ.
والقول الثاني : أنه قول امرأة العزيز ، فعلى هذا يتّصل بما قبله ، والمعنى : ليعلم يوسف أني لم
__________________
(١) هذا القول ورد عن جماعة من المفسرين ، وهو غريب ، وكأنهم تتابعوا على ذلك حيث أخذه بعضهم عن بعض ، وليس بصواب وانظر ما يأتي.
(٢) سورة الأعراف : ١١٠.
(٣) سورة النمل : ٣٤.
(٤) سورة يس : ٥٢.
(٥) سورة محمد : ٣١.