قوله تعالى : (وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ) فيه سبعة أقوال : أحدها : خافوا ربّهم ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني : أنابوا إلى ربّهم ، رواه العوفيّ عن ابن عباس. والثالث : ثابوا إلى ربّهم ، قاله قتادة. والرابع : اطمأنّوا ، قاله مجاهد. والخامس : أخلصوا ، قاله مقاتل. والسادس : تخشّعوا لربّهم ، قاله الفرّاء. والسابع : تواضعوا لربّهم ، قاله ابن قتيبة.
فإن قيل : لم أوثرت «إلى» على اللام في قوله : (وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ) ، والعادة جارية بأن يقال : أخبتوا لربّهم؟ فالجواب : أنّ المعنى : وجّهوا خوفهم وخشوعهم وإخلاصهم إلى ربّهم ، واطمأنّوا إلى ربّهم. قال الفرّاء : وربّما جعلت العرب «إلى» في موضع اللام ، كقوله تعالى : (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) (١) ، وقوله تعالى : (الَّذِي هَدانا لِهذا) (٢). وقد يجوز في العربية : فلان يخبت إلى الله ، يريد : يفعل ذلك موجّهه إلى الله. قال بعض المفسّرين : هذه الآية نازلة في أصحاب محمّد صلىاللهعليهوسلم ، وما قبلها نازل في المشركين. ثم ضرب للفريقين مثلا ، فقال تعالى : (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِ) قال مجاهد : الفريقان : المؤمن والكافر. فأمّا الأعمى والأصمّ فهو الكافر ، وأما البصير والسّميع فهو المؤمن. قال قتادة : الكافر عمي عن الحقّ وصمّ عنه ، والمؤمن أبصر الحقّ وسمعه ثم انتفع به. وقال أبو عبيدة : في الكلام ضمير ، تقديره : مثل الفريقين كمثل الأعمى. وقال الزّجّاج : مثل الفريقين المسلمين كالبصير والسّميع ، ومثل فريق الكافرين كالأعمى والأصمّ ، لأنهم في عداوتهم وتركهم للفهم بمنزلة من لا يسمع ولا يبصر.
قوله تعالى : (هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً) أي : هل يستويان في المشابهة؟
والمعنى : كما لا يستويان عندكم ، كذلك لا يستوي المؤمن والكافر عند الله عزوجل وقال أبو عبيدة : «هل» هاهنا بمعنى الإيجاب. لا بمعنى الاستفهام ، والمعنى : لا يستويان. قال الفرّاء : وإنما لم يقل : «يستوون» لأنّ الأعمى والأصمّ من صفة واحد ، والسّميع والبصير من صفة واحد ، كقول القائل : مررت بالعاقل واللبيب ، وهو يعني واحدا قال الشاعر :
وما أدري إذا يمّمت أرضا |
|
أريد الخير أيّهما يليني (٣) |
فقال : أيّهما. وإنّما ذكر الخير وحده ، لأنّ المعنى يعرف ، إذ المبتغي للخير متّق للشّرّ. وقال ابن الأنباري : الأعمى والأصمّ صفتان لكافر ، والسّميع والبصير صفتان لمؤمن ، فردّ الفعل إلى الموصوفين بالأوصاف الأربعة ، كما تقول : العاقل والعالم ، والظّالم والجاهل ، حضرا مجلسي ، فتثّني الخبر بعد ذكرك أربعة ، لأنّ الموصوف بالعلم هو الموصوف بالعقل ، وكذلك المنعوت بالجهل هو المنعوت بالظّلم ، فلمّا كان المنعوتان اثنين ، رجع الخبر إليهما ، ولم يلتفت إلى تفريق الأوصاف ، ألا ترى أنه يسوغ أن تقول : الأديب واللبيب والكريم والجميل قصدني ، فتوحّد الفعل بعد أوصاف لعلّة أنّ الموصوف بهنّ واحد ، ولا يمتنع عطف النّعوت على النّعوت بحروف العطف ، والموصوف واحد ، فقد قال تعالى : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ) ثم قال : (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) فلم يقتض دخول الواو وقوع خلاف بين الآمرين والنّاهين ، وقد قيل : الآمر بالمعروف ناه عن المنكر في حال أمره ، وكان
__________________
(١) سورة الزلزال : ٥.
(٢) سورة الأعراف : ٤٣.
(٣) تقدم في سورة البقرة عند الآية : ١٨٠.